القمة العربية التي تدحرجت إلى القاع
السبت 24/05/2025- عبد الحميد صيام
التأم القادة العرب في مؤتمر قمة في عاصمة الرشيد بغداد، التي تسعى لتستعيد أمجادها وتشارك العرب فرحتها في عودتها لحاضنتها العربية، بعد أن فشلت محاولات تشويه هويتها، حتى إن يكن التعافي منقوصا لكنه على طريق الاكتمال، لتعود بغداد كما كانت «قلعة الأسود وكعبة المجد والخلود». بغداد الجميلة التي دفن في ثراها الملايين بين الغزوتين المغولية عام 1258 والأمريكية 2003 سعدت باستقبال القادة العرب الغر الميامين، الذين وصلوا إليها ليعلنوا مع قادتها بشائر انتصار الأمة على أعدائها الغزاة البعيدين والقريبين.
لكن القمة العربية الرابعة والثلاثين، التي التأمت يوم السبت 17 مايو 2025، لم تأت على هوى دجلة والفرات، بل غاب عن الحضور 17 زعيما عربيا فقط من أصل 22. والحقيقة أن غيابهم أو حضورهم لم يكن سيغير في الأمور شيئا. فإذا علم هؤلاء الغائبون أن مخرجات القمة أعدت سلفا لترضي القوى الأمروصهيونية وتلبي طلبات المدير الأعلى الذي يثبت العروش، ويطيح بها، ويفتت الدول ويوحدها، ويغزو الدول ويحتلها، وينهب ثروات الدول طوعا أو كرها، فلماذا يكلفون أنفسهم عناء السفر ليكونوا «شهودَ زور» لا يستطيعون أن يغيروا في المخرجات شيئا، على فرض أنهم يريدون أن يغيروا.
من سوء حظ المجتمعين في بغداد أن «لمّتهم هذه» جاءت في ظل تطورات ثلاثة، تكاملت وترابطت وأشارت إلى غزة. فالقمة جاءت بعد زيارة الضيف العزيز والغالي دونالد ترامب الذي عاد برزمة مال لا تزيد عن أربعة تريليونات دولار فقط، جمعها في أربعة أيام، مع بعض الهدايا. ولم تذكر غزة في حضرة الإمبراطور، حتى لا يعكر مزاجه ويتعثر في أداء رقصاته المميزة أمام جنوده المنتشرين في المنطقة، فليس من آداب العرب أن ينكدوا على ضيفهم العزيز.
وفي يوم القمة نفسه، انطلقت «عربات جدعون» لتحصد ما تبقى من أجساد خاوية عضها الجوع، وأوهن منها العظم بعد أن تآكل اللحم. ولم يقتل يومها إلا نحو 300 إنسان. ويجب ألاّ ننسى أن غزة بعيدة قليلا عن بغداد. فإذا لم تسمع بمجازر المستشفى الأوروبي والإندونيسي ومخيم جباليا، فالقاهرة وعمان ورام الله سمعت بالتأكيد. فلا يعتبنّ أحد على بغداد، إذا صرخات غزة لامست أسماع الدنيا، لكنها لم تعثر على معتصم لتلامس نخوته لا في بغداد ولا في دمشق ولا بيروت ولا القاهرة، ولا «مدن الملح»، ولا في أغادير التي كان يستجم فيها أفراد من لواء غولاني. لقد أصم الزعماء الملهمون آذانهم عن حشرجات الأطفال يموتون جوعا ويدفنون تحت الأنقاض. لقد أعلن الزعماء التاريخيون ومن بينهم عباس، أن القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى ولا يسبقها شيء. كما أن القادة العرب أعلنوا بكل ثبات وقوة وتصميم رفض التهجير، ثم طالبوا بكل حزم «بوقف إطلاق النار في غزة»، وأضافوا بكل شجاعة كلمة «فورا». ويقال إن دولا كثيرة في أوروبا والمحيط الهادئ والبحر الكاريبي وغيرها، ارتعدت فرائصها خوفا من كلمة «فورا» وتمنوا على القادة العرب أن يخففوا اللهجة، كي لا تنفلت الأمور من عقالها، ويتحول ذلك إلى تهديد للسلم والأمن الدوليين، ما قد يدعو لجلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة الأوضاع المتدهورة بين 22 دولة عربية عدد سكانها يصل إلى نحو 500 مليون إنسان مقابل «كيان صغير مسالم» لا يزيد سكانه عن عشرة ملايين. أما التطور الثالث فهو رفع سقف المواقف الأوروبية والكندية والأسترالية واللاتينية، خاصة البرازيل وكولومبيا وغيانا وبوليفيا وجنوب افريقيا والمكسيك وكوبا وباكستان. يبدو أن القادة العرب أسقط في أيديهم من هذه المواقف، وادعوا أنهم لم يسمعوا تحولات مواقف تلك الدول وتهديداتها بفرض عقوبات وإلغاء معاهدات وإعادة النظر في اتفاقيات مبرمة. لكن رئيس وزراء إسبانيا، بيدرو سانشيز، لم يكتف بتلك المواقف فقد تحمل مشاق السفر إلى بغداد، وألقى كلاما ثقيلا، وطالب القمة «بالعمل على إنهاء الكارثة الإنسانية»، فصفقوا له طويلا، ولم ينسوا أن يتضمن بيانهم الختامي العظيم المطالبة بإنهاء المأساة، وضرورة أن يقوم المجتمع الدولي (ليسوا هم) بفك الحصار وإدخال المساعدات الإنسانية، وأضافوا أيضا كلمة «فورا». إذن عاد سانشيز جذلا بما حققه في القمة العربية الرابعة والثلاثين.
خطاب محمود عباس في القمة كان تحفة سياسية وأدبية، فهو عودنا على الخطابات الفصيحة، التي تدمج في ثناياها مفردات لا يعرفها إلا الفلسطينيون، خاصة عندما يخرجه عن النص. فقد سبق الخطاب قبل أن يخرج من رام الله بقرارين مهمين تاريخيين، يشيران إلى أن قيام الدولة أصبح قاب قوسين أو أدنى: أوقف توزيع الرواتب على عائلات الأسرى والشهداء، وملاحقة المطاردين من قوى الاحتلال وسجنهم، أو إردائهم قتلى مثل ما حدث مع الشهيد المطارد رامي الزهران (25 سنة) من حركة الجهاد، بعد مطاردة مركبته على مدخل مخيم الفارعة جنوب مدينة طوباس، الذي أردته قوات الأمن يوم 13 مايو، توطئة للمشاركة في القمة ليكون مؤهلا لاستلام السلطة في غزة، بتوافق عربي أمريكي إسرائيلي، رغم صعوبة، إن لم يكن استحالة، هذا التوافق. عباس ألقى كلمة مهمة طالب فيها بدعم السلطة الفلسطينية بتولي مسؤولياتها المدنية والأمنية في قطاع غزة، وتخلي حركة حماس عن سيطرتها إلى جانب تسليمها، وجميع فصائل المقاومة السلاح للسلطة الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني». ولا نعرف أهي زلة لسان أم أنها جملة مقصودة ومدروسة ومطلوب منه أن يقولها وهي (انتبهوا جيدا): «وتسلميها السلاح للسلطة الفلسطينية (غابت هنا كلمة الوطنية) الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني». هل سمعناه جيدا؟ من هو الممثل الشرعي والوحيد حسب هذا الخطاب المكتوب، وليس المرتجل وليس خروجا عن النص؟ إنه السلطة الفلسطينية وليس منظمة التحرير الفلسطينية. وهذه أول مرة يلغي شرعية ووحدانية تمثيل منظمة التحرير الفلسطيينة لكل فئات الشعب الفلسطيني، ويستبدلها بالسلطة الفلسطينية. آمل أن تكون زلة لسان. وللعلم رفضت إسرائيل أن تعترف بكلمة وطنية وأصرت على أن اسمها السلطة الفلسطينية، لكنها سمحت للفلسطينيين استخدام كلمة «الوطنية».
وثانيا يريد عباس أن يسحب السلاح من الفصائل جميعها ووضع السلاح تحت إشراف الأجهزة الأمنية، التي يعرف الشعب الفلسطيني كيف يستخدم هذا السلاح في الضفة الغربية. وتكرار التجربة نفسها بالمكونات الكيميائية نفسها، لا يمكن إلا أن تعطي النتائج نفسها، أي تحويل سلاح المقاومة في غزة لحماية أمن إسرائيل كما هو الحال في الضفة الغربية. فقد شاهد أبناء حوارة وترمسعيا وبورين وطمون وطوباس وبرقة ومخيمات جنين وطولكرم ونور شمس والفارعة كيف تحمي قوات الأمن المواطنين من اعتداءات المستوطنين وقوات الأمن والجيش. فأسس الوحدة الوطنية التي شرحها عباس للمؤتمر «الاعتراف وقبول الشرعية الدولية، ثم قبول مبدأ النظام الواحد، دولة واحدة، وقانون واحد وسلاح شرعي واحد وغير ذلك لن نقبل أحدا في منظمة التحرير الفلسطينية». ولا معنى للشرعية الدولية إلا الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، كما هي وليس كما يجب قانونيا أن تكون. لأن الاعتراف الرسمي الوحيد بإسرائيل هو على أساس قرار التقسيم 181 لعام 1947. أما ما جاء بعده فلا يعتبر إلا اعترافا بأمر واقع وليس بحكم القانون الدولي».
بقي أن نثني على قرار رئيس العراق العظيم، حيث أعلن تبرعه بمبلغ 40 مليون دولار منها 20 لإعمار غزة ومنها 20 لإعمار لبنان. على الأقل عاد الوفدان اللبناني والفلسطيني بمصاريف جيب تكفي ربما يومين أو ثلاثة ايام للطبقة السياسية المتحكمة بالقرار السياسي. وبعد هذا، أليس حريا بنا أن نفتخر بهذه القمة التي أصرت أن تتدحرج إلى القاع؟
- عن القدس العربي