بين ماجد أبو شرار وغسان كنفاني: إبراهيم أبو ديه ودرس البطولة
الإثنين 20/10/2025في الذكرى الرابعة والأربعين لاستشهاد ماجد أبو شرار
- مروان عبد العال
في الأدب الفلسطيني المقاوم، لا تولد الشخصيات من الخيال وحده، بل من الذاكرة والجرح، من التجربة التي يمتزج فيها الحبر بالدم، والأسطورة بالواقع. هكذا خرج إبراهيم أبو ديه من قلب التغريبة الفلسطينية، لا كبطلٍ خارق، بل كثائر إنساني يختصر سيرة جيلٍ حمل البندقية وخذلته القيادة. هذا البطل، الذي مرّ ذكره في أعمال كلٍّ من ماجد أبو شرار وغسان كنفاني، تحوّل إلى مرآةٍ تعكس المسافة بين البطولة كقيمة أخلاقية، والسياسة كمنظومة عجزٍ وتواطؤ.
ماجد أبو شرار، الذي يمثل بصدق أدب المقاومة الفلسطينية، جسّد هذا المعنى في قصته “مكان للبطل” التي أهداها إلى البطل إبراهيم أبو ديه. كتبها في مطلع الستينات، وأعاد نشرها في النصف الثاني من السبعينات، في زمنٍ كانت فيه الأسئلة حول “جدوى الثورة” يومها ووجهتها تتكاثر كالنار في الهشيم، على نفس موضة “جدوى المقاومة” في هذا الزمن وعلى توقيت الابادة. لم يكن اختيار عام 1948 زمنًا قصصيًا بريئًا، بل موقفًا فكريًا حادًا؛ فالفجوة بين زمن الكتابة وزمن الحدث ليست تقنية أدبية، بل احتجاج أخلاقي على تكرار الخيانة نفسها بأسماء جديدة. من خلال “مكان للبطل”، لا يدوّن ماجد حكاية شهيدٍ فحسب، بل يكتب بيانًا ضد اغتيال البطولة في ثقافةٍ باتت تُقدّس الهويات التافهة والشعارات الفارغة أكثر مما تكرّم الفعل.
في هذا المعنى، تبدو القصة وكأنها نبوءة أدبية بما سيؤول إليه الزمن العربي اللاحق — زمن تُغتال فيه الأمثولة، وتُشوَّه فيه المفاهيم. في زمن البطولة الحقيقية، يجري تدمير مفهوم البطولة نفسه: يُستبدل الفداء بالاستعراض، والقدوة بالنجومية، والشهادة بالتصفيق. كأن الثقافة التي أنجبت إبراهيم أبو ديه وغسان كنفاني وماجد أبو شرار، تُحاصر اليوم بمعايير إعلامية تعيد تعريف البطولة وفق منطق السوق لا منطق القيم.
من يكتب الآن عن يحيى السنوار الذي استُشهد واقفاً ينشد: “الحرية الحمراء بابٌ بكلّ يدٍ مضرّجةٍ يُدَقّ”؟
ومن يقرأ اليوم في شهادة السيد حسن نصر الله موعظة تسمو إلى مستوى البطولة العرفانية والغيرية الأخلاقية، وتضحيات تتجاوز الذات وتسمو بالفكرة والوطن والمبدأ والقضية وفلسطين، لتصبح رمزًا حيًا يلهم الأجيال، كما فعل ماجد وغسان حين صاغا من الثائر إبراهيم أبو ديه أدباً خالدًا يرمز للثبات والوعي في مواجهة فقاعة نظام القيم الاستهلاكية التي تعظّم الأشياء الصغيرة وتُهمش القيم العميقة والعظيمة ، فتسود الصورة الخادعة على الحقيقة الدامغة.
كما كتب ماجد وغسان عن بطل من تاريخنا الفلسطيني أسمه إبراهيم أبو ديه، نحتاج اليوم إلى من يكتب عن الأبطال الذين يواصلون المعنى نفسه في زمنٍ يفرغ البطولة من مضمونها.
أمّا غسان كنفاني، فقد التقط من شخصية أبو ديه بعدًا آخر أكثر إنسانية وشاعرية. في ورقة من الطيرة من مجموعة أرض البرتقال الحزين، يظهر البطل ذاته لا كموضوعٍ للتمجيد، بل كتجسيدٍ للكرامة وسط الانكسار. أصيب بست عشرة رصاصة في ظهره خلال معركة “ميكور حاييم”، وشُلّ، لكنه ظلّ واقفًا بالمعنى الوجداني، يبتسم في وجه الموت ويطلب من رفاقه أن ينشدوا له موطني. ثلاثة من طلبة الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت هم : جورج حبش ووديع حداد وأحمد الخطيب، انشدوا له وبكوه معاً. وحين تدخل ممرضة عجوز لتقدّم له زهرة “الحنون” – الدم والتراب في رمزٍ واحد – يحتضنها إبراهيم كأنها الوطن كله، ويموت وهو يشدّ عليها.
في هذا المشهد الكنفاني، تتحول البطولة من حدثٍ كفاحي إلى تجربة روحية تُعيد الإنسان إلى جوهره: أن يُواجه الفناء بالابتسامة، وأن يترك خلفه معنى لا يُقاس بالانتصار أو الهزيمة.
وهكذا، يلتقي ماجد وغسان عند نقطة الوعي الكبرى: أن البطولة ليست فعلاً بطوليًا بحد ذاته، بل استمرار الضمير في وجه العدم. كلاهما كتب ضد النسيان، ضد التحريف، وضد تواطؤ الوعي مع الهزيمة. وكلاهما رأى في الأدب شكلاً من أشكال المقاومة، وسلاحًا لحماية الذاكرة من التزييف.
لقد أصبح إبراهيم أبو ديه استعارة كبرى لفلسطين نفسها: تقاتل واقفة، تُصاب في ظهرها بخيانات السياسة، تُشلّ لكنها تظلّ تفكر بالعودة، تموت وهي تشدّ على زهرة الحنّون، رمز الجمال الممزوج بالألم. وفي موته بدأت ولادة جديدة للثورة. وهنا، يتجاوز النص الأدبي حدود التوثيق إلى فضاء الفلسفة، إذ يُعيد تعريف البطولة لا كحالة نادرة بل كإمكانية إنسانية دائمة، كامنة في الوعي الجمعي حين يرفض الخضوع.
إننا إذ نستحضر اليوم، في الذكرى الرابعة والأربعين لاستشهاد ماجد أبو شرار، الذي أغتيل في روما 9/تشرين الاول /1981، هذا التلاقي بينه وبين غسان كنفاني الذي اغتيل في بيروت 8 تموز 1972، في صورة إبراهيم أبو ديه، فإننا نستحضر الزمن الذي كانت فيه الكتابة فعلًا من أفعال الحرية، والبطولة وجهًا آخر للحقيقة. كلاهما كتب من موقع الشاهد والشهيد معًا، وعلّمنا أن البطولة لا تموت.
- عن موقع أكاديمية دار الثقافة