أسطورة الحضور والغياب
الأحد 11/11/2018صور ـ شبابيك ـ إيمان جمال الرفاعي
هناك من يرفعون رؤوسهم بالتاريخ وهناك من يرفع التاريخ بهم رأسه، عرفات الذي ظل ثابتا في عين العاصفة لم يترك لنا حيزا للحديث عنه، هو القائد، الأب، القدوة، المعلم، الختيار، جبل ظل ثابتا حتى الرمق الأخير ولم ينحن للعواصف، فمات واقفا..
يقول عضو المجلس الثوري لحركة فتح الحاج رفعت شناعة “هناك أشخاصا إمتلكوا صفة الرمزية، هذه الصفة التي نسمع عنها كل مئة عام، صناعة الرمزية في مسيرة حياة الإنسان لا تأتي بسهولة، ياسر عرفات إمتلك هذه الصفة لأنه كان مؤهلا لذلك منذ البداية”.
ويشير شناعة إلى علاقة عرفات مع عبدالقادر الحسيني وكيف تم تكليفه وهو في الخامسة عشرة أن يكون مساعداً له في قطاع غزة. ويضيف أن حسن التصرف في المحطات الصعبة والمؤلمة من بين ما يميز قائد عن أخر، ففي إجتياح لبنان عام ١٩٨٢ تخلى العالم كله عن أبو عمار لكنه خاض المعركة ضد ذلك الإحتلال الذي وصل إلى جوار بيروت ولم يستطع الدخول إليها، وإستطاع أن يقنع الجميع أنه قادر على مواجهة الإحتلال الإسرائيلي ويسجل أمام العالم كله أن هذه المدينة التي نحن موجودون فيها كفلسطينين ولبنانيين العاصمة الحقيقة للدول العربية لأنها صمدت أمام الاحتلال.
ويرى شناعة أن أبو عمار صنع “شيئا من لا شيء”، فبيروت لم تكن تملك أسلحة توازي قدرة الإحتلال الإسرائيلي لكنه بالإرادة والعزيمة والإصرار والتعبئة والجهد السياسي والعمل مع الأطراف اللبنانية والعربية والدولية إستطاع أن يصمد لمدة ٨٨ يوماً، ويخرج وفق الشروط التي يريدها هو.
ويشير إلى أن شرط الأمريكان كان الخروج برفع الأعلام البيضاء فرفض وقال “فلتكن المعركة”. وقال لفيليب حبيب الذي كان يفاوض آنذاك “إذا أردنا الخروج إكراماً للشعب اللبناني الذي لم يعد يحتمل فسوف نخرج رافعين الأعلام الفلسطينية والبندقية”. ويعتبر ذلك هزيمة لإسرائيل “فهم أرادوا أن نخرج رافعين الرايات البيضاء ونقول إنتهى النضال الفلسطيني”.
ويقول إن عرفات كان دائماً يعطي مثالاً في التضحية فعندما مرض وتم قصف المقاطعة بالطائرات بقي في غرفته وإقترحوا عليه أن يخرج للعلاج وأن لا يعود فرفض مع العلم أنه كان بإمكانه أن يغادر ليتعالج ويعيش في أي مكان أخر وعندما رفض الإسرائيلون عودته قال لهم “أنا باق هنا حتى الموت”، وهنا صنع الرمزية مرة اخرى.
وعبر شناعة عن إعتقاده بان القضية الفلسطينية ولادة بمعنى أنها كثيرة الإنجاب وصعوبة المرحلة تدفع الكثير من الأوفياء والحريصين لبذل جهد أكبر والتفكير أكثر في كيفية تحقيق عوامل النصر رغم الظروف الصعبة التي نعيشها. ويضيف قائلا: لدينا خيار واحد أن نهزم العدو الإسرائيلي سياسيا وعسكرياً وأن نحقق مطالبنا المحقة في إقامة الدولة المستقلة على حدود الرابع من حزيران عام ١٩٦٧وعاصمتها القدس الشريف وعودة اللاجئين، وهذه قضايا قانونية وسياسية عادلة على العالم أن يلتزم بها لأن إسرائيل تحاول نسف كل شيء.
من جهته يقول عضو المجلس الثوري لحركة فتح الدكتور إياد نصر ل”شبابيك” إن الرمزية التي لا زال حتى اليوم يتمتع بها الشهيد الرمز ياسر عرفات لم تأت من فراغ بل جاءت نتاج تضحيات جسام قدمها القائد أبو عمار منذ بداية مسلكة في هذه الثورة وإنخراطه في العمل النضالي الفلسطيني.
ويرى نصر أن أبو عمار جسد في كوفيته وسلوكه اليومي وحياته النضالية منذ أن كان في الإتحاد العام لطلاب فلسطين وعلى إختلاف مراحل مسيرة النضال الفلسطينية حقيقة أن النضال الفلسطيني يستدعي دوماً أن تكون متفانياً ومخلصاً مضحياً محباً لشعبك، محباً لمن هم حولك قريبا منه بقلبك ووجدانك.
وأوضح أن ذلك كله تجسد في شخصية القائد الرمز ياسر عرفات حيث أنه كان منذ اللحظة الأولى قريباً جداً من هموم الطلاب وهموم المقاتلين العسكريين عندما بات قائداً لحركة فتح وقائداً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكل ذلك يؤكد مسيرة نضالة وحياته اليومية التي كان يحياها في المعسكرات وفي مواقع القتال وفي مخيمات لبنان ومع جماهيرنا عندما عاد إلى الأرض المحتلة في غزة وفي الضفة الغربية ومع الجرحى.
يضيف أن الرمزية لها ثمن كبير قدمه ياسر عرفات من عمره ومن نضاله ومن آلامه ومعاناته لأجل قضية شعبه لذلك تمتع ياسر بهذه الرمزية حتى بعد إستشهاده فما زال رمزاً للقضية الفلسطينية.
ويقول إن ياسر عرفات لم يكن فقط قائداً وطنياً فلسطينياً بل قائداً أمميّاً عُرف بذلك لوقوفه إلى جوار كل حركات التحرر العالمية وهذه سمات القائد الذي يبحث عن حرية شعبه. وشدد على ضرورة أن يكون القائد مناصراً وداعماً ومسانداً لكل قضايا التحرر وعدالة الشعوب وحقوقها لذلك إكتسب هذه الرمزية حتى على المستوى العالمي فكان أبو عمار عندما تحط أقدامه في بلد يعاني أو لدى شعبٍ مضطهد يمثل بوابة الأمل لهذا الشعب.
ويضيف قائلا إنه عندما وصل أبو عمار إلى أرض فلسطين عبر بوابتها الجنوبية معبر رفح، إستقبلته جماهير لا عدد ولا حصر لها وعندما غادر هذه الدنيا وإستشهد وهو محاصر وكان يرتدي بزته العسكرية إستشهد وهو يدافع عن هذه القضية، إستشهد وهو صامد متمسك بالثوابت الوطنية.
ويؤكد على أن ما تركه أبو عمار من ثوابت ومن إرث لا يستطيع أحد النزول عن سقفه، هذه الثوابت التي تركها فينا ياسر عرفات هي سمة القائد التي ترك رمزيةً حتى في المفاهيم وثقافةً باقيةً للأبد لدى الصغير والكبير بدليل أنه يوم غادر ذرفت عليه الأرض دموع.
ويرى الباحث عزيز المصري أن الأقدار تهب الشعوب والثوراث رموزا تأتي لمرة واحدة، تصنع الفرق وتثبت الفكرة وترحل، هكذا كان ياسر عرفات. جعل من كوفيته جواز سفر للقضية الفلسطينية عالميا، جمع بين التدين الشعبي والعلمانية السياسية وهذا ما تميزت به حركة فتح كتنظيم يعبر عن مختلف أفكار وإيديولوجيات المجتمع الفلسطيني.
ويضيف أن كل طفل ورجل وإمرأة وشاب وعجوز رأي في عرفات إنعكاسا لحلمه، إستطاع عرفات جمع كل التناقضات والتعارضات الفلسطينية في بوتقة واحدة في أصعب المراحل واللحظات الفارقة بالإتفاق على شروط الحد الأدني من التوافق الوطني، إستوعب الجميع، تفهم تناقضات الحالة الفلسطينية وحولها إلى نقاط إتفاق.
ويشير إلى أن عرفات لم يكن ليسمح بحالة شرخ داخلي ومن كان يأتي لمكتب عرفات غاضبا كان يخرج منه راضيا وإذا ما وصل لعرفات أن هناك من تعرض لظلم أو حالة غضب يعمل جاهدا لحل هذه الاشكالات.
ويقول إن عرفات إستطاع فرض نفسه كأب وزعيم روحي نذر حياته لقضية شعبه العادلة، طاف العالم في سبيل التعريف بقضية شعبه العادلة حتى وصف بأنه قائد طائرة تهبط صباحا في القاهرة ومساءا في هافانا.
ويستطرد قائلا إنه عندما ذهب عرفات إلى الخيار السياسي مع الإحتلال كان هدفه الأول وضع قواته في أرض الوطن وبعدها لكل حادث حديث، إستطاع أن يحافظ على القرار الفلسطيني المستقل مما أكسبه شرعية مضاعفة لدى أوساط واسعة من الشعب الفلسطيني ولم ينس حلفاءه التاريخين، حافظ على علاقة الداخل بالخارج ولم تشعر مخيمات الخارج بغيابه.
وينهي قائلا “اليوم للأسف نرى صورة معاكسة تماما، يجمع الكل الفلسطيني أنه فقد الرمز والأب والزعيم الروحي، لم يعد هناك من هو قادرعلى إدارة التناقضات الفلسطينية بصورة تجعل الكل راضيا حتى لو كان خاسراً، والمشهد السياسي اليوم من حالة إنقسام وتشرذم تعبر بوضوح عن غياب ما كان يجمع الجميع بكلمة وإشارة يده، ولسان حال الشعب الفلسطيني كما يقال في المقاهي والشوارع “من بعدك ضعنا يا ختيار”.