«أوسلو» خارج التاريخ وخارج الحاضر أيضاً الفيلم غير المناسب في الوقت المناسب
السبت 12/06/2021- ندى حطيط
لا يختلف عاقلان في المنطقة العربية، على الأقل، أن تعقيدات المرحلة التي تمر بها قضيّة الشعب الفلسطينيّ هذه الأيّام مرتبطة بشكل أو آخر بمجموعة الاتفاقات سيئة السمعة، التي وقعتها قيادة منظمّة التحرير الفلسطينيّة مع الكيان الإسرائيلي في 1993 بعد عدّة أشهر من قناة سريّة خلفيّة للتفاوض المباشر استضافتها العاصمة النرويجيّة أوسلو، بعدما بدا أن المفاوضات العلنيّة، التي كانت تجري في واشنطن وقتها لا تؤتي أكلاً.
وقد أدت تلك الاتفاقات إلى قبول القيادة الفلسطينيّة لمبدأ الاعتراف بشرعيّة دولة (إسرائيل) وحقها في الوجود، والقبول بدولة منزوعة السيادة في أراض من فلسطين، التي احتلّت عام 1967 في المناطق ذات الكثافة السكانيّة العربيّة حصراً، وتحت حماية الاحتلال، ومن ثمّ تأجيل حسم المسائل الأساسيّة كاللاجئين وحق تقرير المصير وغيرها لمفاوضات ما سميّ بالحل النهائي – الذي لم يأت قط، رغم ثلاثة عقود من المفاوضات المزعومة -. وقد نتجت عن هذه الاتفاقيّات تشويهات لا نهاية لها في أوضاع الفلسطينيين، سواء لفصل فلسطينييّ الضّفة والقطاع عن إخوانهم في الأراضي المحتلّة 1948 أو لتحوّل أجهزة ما سميّ بالسلطة الوطنيّة الفلسطينيّة (وللمفارقة فإن الاسم متطابق مع اسم السلطة الوطنيّة الهندية، التي كانت أداة الأمريكيين في إلغاء حالة السكان الأصليين في قارة أمريكا الشماليّة بشكل شبه نهائيّ) إلى جهاز للهيمنة على الفلسطينيين ومنع أي نزعات تحرريّة لديهم وتفكيك مقاومتهم عبر ما يعرف بآليّة التنسيق الأمني.
بعد ثلاثة عقود ما زالت أوسلو ملتفة بالضباب
رغم هذا التأثير الحاسم لأوسلو 1993 على القضيّة والشعب معاً، فإن كثيراً من تفاصيل تلك القناة السريّة بقي طيّ الكتمان، وغاب بعض أبطالها عن مسرح الحياة وتوارى آخرون واعتصموا بالصمت، فيما تجنّبت الأطراف المعنويّة المتورطة في إنجاز تلك الطبخة الآثمة الإفصاح عمّا تمتلكه من معلومات ووثائق رسميّة تحت غطاء السريّة والمصالح القوميّة. ولذلك تفاءل كثيرون بالأنباء عن شريط دراما تاريخيّة يحكي أوسلو لا سيّما وأن كاتبه (جيه تي روجرز) أمريكيّ – وليس يهوديّاً – مما قد يسمح له بشيء من التوازن في المعالجة، وأن نصاً مشابهاً كان قدّم كعمل مسرحيّ في الولايات المتحدة عام 2016 لكاتب النصوص المسرحيّة والتلفزيونية الشاب حاز على جائزة «توني» المرموقة في مجال المسرح، وأن ممثلين عرباً استدعوا للمشاركة في صنع نسخة فيلم تليفزيونيّ من العمل – أنتجتها شركة HBO وعرضتها اعتباراً من هذا الشهر على عدد من منصّات الإنترنت الرقميّة -. لقد بدا الوقت مثالياً لاستعادة تلك المرحلة وتتبع خطوط الخلل الاستراتيجي في الحالة القائمة فلسطينياً وعربيّاً إلى بدايتها، سواء كانت عند لحظة اتفاقيّات أوسلو ذاتها (1993) أو اكتفت بعبورها نحو حالة الترديّ المتصاعدة التي يعيشها سكان المناطق المحتلّة والتي تجددت الشهر الماضي مع مزيد من إراقة الدّماء ومصادرة المساكن وقمع المواطنين. لكن الشريط المعروض – من إخراج بارتليت شير – بدا أقلّ كثيراً من التوقعّات، وغير قادر على لعب الدّور المتأمّل منه لا على صعيد المضمون السياسي / التاريخي، ولا على مستوى المعالجة الفنيّة، وفشل في الاستفادة من مواهب الممثلين البارزين بخبرتهم المديدة – الذين خنقهم ضعف السيناريو – لينتهي العمل أقرب إلى السقوط في فخ ترداد التّصورات المنحرفة حدّ الانحياز لنظرة هوليوود المبسترة أبداً بشأن كل ما يتعلّق بالصراع العربي – الإسرائيلي.
المنقذ الأبيض: الهروب من التاريخ إلى الأسطورة
لم يستطع أوسلو المُنتَج التلفزيوني مغادرة أوسلو النص المسرحي الذي قدّم في 2016 لا على صعيد السرد المطول لنص يتألف بالكامل من اجتماعات متعاقبة فحسب، بل وأيضاً في احتجاز الكاميرا ضمن فضاء مغلق أشبه بخشبة مسرح دون أي استفادة حقيقيّة من الموقع الجغرافي لأوسلو المدينة وأجواء النرويج الخلابة أو لحقيقة أن البطلين الفعليين لكل ما جرى كانا بعيدين تماماً عن اسكندنافيا وقت المفاوضات: إسحاق رابين وياسر عرفات، وبدلا من ذلك يهرب روجرز إلى التركيز على الأدوار غير المعلنة للدبلوماسيّة النرويجيّة منى جول (روث ويلسون) وزوجها، عالم الاجتماع ومدير مؤسسة فافو تيري رود لارسن (أندرو سكوت). يشرف الزوجان الأوروبيان على إطلاق العمليّة التفاوضيّة وضمان استمرارها بتجرّد تام وإيمان لا يتزعزع ودقة مدير مدرسة يجمع بين تلاميذ مراهقين متشاجرين للإصلاح بينهم وهذه يفسّرها الفيلم بزيارة لهما سابقة إلى قطاع غزّة ومشهد للحظة مواجهة وجها لوجه بين متظاهر فلسطينيّ ومجنّد إسرائيلي بقي حيّاً في ذهن الزّوجين.
دراما تاريخيّة خارج كل سياق تاريخيّ
ليس مطلوباً بالطبع من العمل الدراميّ أن يطابق الأحداث التاريخيّة، فهو في النهاية ليس عملاً وثائقيّاً، ويظلّ الخيال فيه منفتحاً على سيناريوهات بديلة أحياناً للحدث التاريخيّ الذي تتعقبه. ومع ذلك فإن دراما تاريخيّة تتصدى لمهمّة سرد لحظة مفصليّة من تعاقب الأحداث ينبغي لها أن تتموضع بشكل أو آخر في السياق الكلّي لتلك اللحظة. لكن روجرز يعمد إلى تحويل المسألة برمتّها إلى حملة (صليبيّة) شخصيّة يطلقها ويديمها ويحسمها الزّوجان النرويجيان من تلقاء نفسيهما، فيما كل الأطراف الأخرى تؤدي أدواراً مكمّلة انفعاليّة تأتي استجابة للضغوط المستمرّة.
وهكذا ينجح الزوجان في إقناع الطرفين بالالتقاء على مستوى شخصيّ وإطلاق محادثات من بوابة «المناقشات الحميمة بين الناس، وليس التصريحات الكبرى من قبل الحكومات»: وزير مالية منظمة التحرير الفلسطينية أحمد قريع (يلعب دوره باقتدار وبتقنية عالية النجم الفلسطيني المخضرم سليم ضو) ومساعده حسن (وليد زعيتر) وأستاذ اقتصاد مقرّب من الحكومة الإسرائيليّة (دوف غليكمان) ومساعده (روتيم كينان). ولا تقتصر مهمة الزوجين المقدّسة على اجتذاب مستويات متصاعدة من التمثيل السياسي للمتفاوضين، بل وأيضاً إبقاء الحكومة النرويجيّة خارج الصورة ومن ثم توريطها تدريجيّاً مع قطع كليّ غير واقعيّ عن الجانب الأمريكي. غلبة الجانب الشخصي على أوسلو والانقطاع عن السياق التاريخيّ فرضا أجواء من العاطفة المنفعلة والغضب، والأنانيات الذكورّية المتصارعة، فضلا عن لحظات من الفكاهة أغلبها لا تطاق. على سبيل المثال، يظهر المفاوضون الفلسطينيون عاطفيين وانفعاليين بشكل لا يختلف كثيراً عن الطريقة التي يتم بها تقديم الهنود الحمر أو النازيين الألمان في الأفلام الغربية. وعلى الناحية الأخرى، فإن الإسرائيليين أكثر اعتدالا وعقلانيّة ورجال دولة، فيما تفوح رائحة التّفوق الأخلاقي عند الزوجين الأوروبيين في كل منعطف.
خارج التاريخ وخارج الحاضر أيضاً
لا يكتفي روجرز باقتطاع أوسلو/ الحدث من سياقه التاريخي فحسب، بل هو أيضاً يغلّفه بورق لامع كانتصار استثنائيّ للسلام على العنف المتبادل، دون أي تفسير أو إشارة لمآلات الاتفاقيّات الموقعة هناك بعد مرور ثلاثة عقود، وتلك سذاجة أفقدت الفيلم أي قيمة عمليّة لجمهور اليوم الذي لم يخرج بعد من مشاهد العدوان الأخير للإسرائيلي على غزّة واعتداءات المستوطنين وقوات الأمن على المقدسيين كما مواطني فلسطين المحتلّة عام 1948. ربما كانت اتفاقات أوسلو للسلام تاريخية بمعنى ما، لكنها أيضاً كانت موضع احتقار ورفض واسعي النطاق واستقبلت بموجات من الاحتجاج من كلا الجانبين: فقد أشار إليها إدوارد سعيد مثلاً على أنها «أداة استسلام فلسطيني، وفيرساي فلسطينية» واغتيل رئيس الوزراء إسحاق رابين بعد فترة وجيزة على يد متطرف إسرائيلي وتحوّلت السلطة الفلسطينية الناشئة إلى جهاز قمعي آخر في خدمة الاحتلال، وتدهورت أوضاع الفلسطينيين اجتماعيّاً وضعفت قضيتهم سياسياً.
لكن كيف نتج ذلك كلّه عن إنجاز «أوسلو» المزعوم إذاً؟ أوسلو الفيلم التلفزيونيّ بالتأكيد لا يمتلك الجواب.
- عن القدس العربي