logo
الزجال الأحمر
الجمعة 19/01/2018

صور – شبابيك ـ ايمان الرفاعي

حبرهم من دموع ودماء، أغنياتهم من وجع وفرح، ملح وخبز، تركوا بصماتهم وصورهم الناصعة في القلب والوجدان، وحرسوا بحدقات عيونهم وايقاع الحياة في عروقهم تمرد اغصان زيتونهم على البطش اليومي.

راجح السلفيتي واحد من الإعلام التي ترسم حدود الوطن وتحلق فوق روابي البلاد، جبالها وسهولها، بحرها وسماءها وصحراءها، تبشر الأجيال جيلا بعد جيل بأن الطريق مشاعل وقناديل تضيء عتمة الدروب وتبشر بانبلاج فجر الحرية القادم لا محالة.

ولد راجح السلفيتي في بلدة سلفيت قضاة نابلس سنة ١٩٢١. اشتهر بالاغاني الشعبية والزجل، وكرّس جهده وفنهُ لخدمة القضايا الوطنية، غنى للوطن والاسرى، والشباب والمقاومة والوحدة الوطنية والانتفاضة، واطلق عليه الرئيس الراحل ياسر عرفات في مهرجان ثقافي في القاهرة عام ١٩٩٠، لقب “صوت الانتفاضة”. 

جمع السلفيتي بين “التجربة النضالية والتجربة الفنية” مع بدء حياته مناضلاً في صفوف الثورة التي اندلعت عام 1936، حيث التحق بفصيل عارف عبد الرازق وهو لا يزال يافعاً، لكنه سرعان ما ترك الفصيل احتجاجاً على تصرفات الثوار بحق الاهالي وتحميلهم ما لا يطيقون، لكنه ما لبث ان التحق بالثورة مرة ثانية عندما شكل ابن بلدته فايز الزيز فصيلاً جديداً، استمر حتى نهاية الثورة وذاق انواع العذاب من عملاء الانتداب كغيره من المناضلين.

في بداية الاربعينيات بدأت تتفتح مواهبه وتظهر ميوله نحو الزجل فكان يحيي حفلات الاعراس بالاهازيج والدبكات الشعبية، صادفت اول طلعاته الزجلية قيام احد جيرانه بقتل أرنب له، تألم عليه وكتب قصيدة مطلعها:

يا خسارة ويا خسارتنا

مصيبة كبيرة مصيبتنا

ترملت ارنبتنا

وانحرمنا الشيخ أرنب

 

مع نهاية الحرب العالمية الثانية غادر الى قرية سلمه قرب يافا طلباً للرزق وهناك بدأ يشارك في الحفلات والمهرجانات حتى اصبح بلبل الساحل الصداح وتميز عن غيره بصوته القوي الممزوج ببحة جبلية.

عند نشوب الحرب العربية-الاسرائيلية عام ١٩٤٧/١٩٤٨ التحق بصفوف المقاومة وأصيب برصاصة استقرت قرب رئته مما سبب له امراضا رافقته حتى وفاته.

بعد انتهاء الحرب واحتلال معظم الاراضي الفلسطينية عاد الشاعر إلى سلفيت وفي بداية الخمسينات انضم الى الحزب الشيوعي ليحمل على عاتقه هو وابناء جيله مسؤولية انهاء رواسب الفساد والحقد العشائري في البلدة وزرعوا بذور التآخي والاهتمام بالمصلحة العامة.

كانت باكورة اعمال الشاعر السياسية ما قاله في حفل عرس سنة ١٩٤٩ واصفاً خيانة الجيوش العربية:

دخلت جيوش العرب واتباشرنا فيها

والبستنا ثوب العار ريت الله يخزيها

في سنة 1955  اندلعت التظاهرات ضد حلف بغداد المشؤوم وهب الشعب الفلسطيني والاردني في الضفتين ضد ذلك الحلف وكان هتّاف تلك المظاهرات راجح السلفيتي:

نحنا شعب ما بنخاف

من استعمار ورجعية

ما بنوقّع ع الاحلاف

لو ضلت منا بنيّه

كان ذلك الشعار يتردد من نابلس الى أربد ومن القدس الى عمّان ومن جنين الى الكرك ومن الخليل الى معان حتى اسقط الحلف.

هرب الى سوريا ومنها الى العراق بعد صدور الاحكام العرفية والقاء القبض على الكثيرين بعد انقلاب نيسان 1957 ، وقاد المظاهرات هناك ضد نوري السعيد والقي القبض عليه وارسل الى لبنان لتسليمه الى الاردن، لكن رفاقه استطاعوا تهريبه الى الخارج حيث استقر في تشيكوسلوفاكيا ليعمل هناك ويحتك بالطلاب العرب وتدوي اشعاره في جميع انحاء اوروبا.

عاد الى وطنه سنة ١٩٦٥ بعد ان اصدر الملك حسين العفو العام الا ان الاستقرار لم يدم طويلا بعد معاودة الحكومة الاردنية ملاحقة المناضلين ليفر الى سوريا ويمكث فيها حتى عام ١٩٦٧حيث عاد متسللا الى مسقط رأسه سلفيت.

استأنف السلفيتي نشاطه الفني وأخذ يحيي حفلات الاعراس كمصدر رزق له، كما راح يشارك في المهرجات الوطنية واحتفالات الجامعات لتصير فقرة راجح السلفيتي الصفة المميزة لكل احتفال ومهرجان.

شهد معركة الكرامة بعد حرب حزيران وحرب تشرين حيث كتب ملحمة شعرية لخص فيها الاحداث يقول في مطلعها:

وجه النحس يا فجر خمسة حزيران

الحق فيك انتكس واتغطرس الطغيان

واللي على شعبه لبس جلد الهصور

بفروة حصيني انسل على البازان

يحل عام ١٩٧٤ لتقوم سلطات الاحتلال بحملة اعتقالات تشمل الكثير من بينهم السلفيتي ليمكث في السجن ٢٢ شهراً ويواجه اشد أنواع القمع والتعذيب، وكتب في المعتقل اروع قصائده: “الزيارة”، “تحية فتح في عيدها العاشر”، “بتهون”، “وصية الى ولده احمد”، “رؤيا”، وحفظ المعتقلون اشعاره عن ظهر قلب ونقشوها على جدوان السجن.

خرج السلفيني حراً طليقاً عام ١٩٧٦ ليتابع نشاطه النضالي من خلال خوضه الانتخابات البلدية وفوزه هو واثنان اخران من رفاقه ليقودوا العمل الوطني في مقاومة الاستيطان ومصادرة الاراضي وتقديم الخدمات الاجتماعية وتقوية العلاقات بين جميع بلديات الضفة، حتى اعلنت البلديات تعليق اعمالها في ايار ١٩٨٢.

اعتبرت مرحلة السبعينات وما فوق رحلة النضج السياسي في اشعار السلفيتي فلم تخل حفلة عرس او مهرجان جامعة من التغني بأحد المواضيع الوطنية اهمها المحافظة على الارض، وتناول أيضاً شعره تخاذل الامة العربية عن نجده شعبه وسيطرة امريكا عليهم فقال:

من كل الدنيا سمعنا شجب واستنكار     

وكذا العروبة وأكبر دولة فيها

عفيه عليهم نشامى وزعوا الاخبار

بنشرات توهم ان الغضب عاميها

كان السلفيتي دائم الاعتزاز بانتمائه الفلسطيني فكانت فلسطين حاضرة على لسانه في كل عرس ومهرجان وفي كل قصيدة ومقطوعة ومن اغانيه في السجن:

أبسما بأرض ببحر بفي

بغير اسمي لا تسميني

مقيد مطلق ميت حي

اسمي عربي فلسطيني

نشبت الانتفاضة عام ١٩٨٧ لتتحرك سلفيت موطن الشاعر ويكون راجح صوت الانتفاضة فيكتب الاشعار والازجال الحماسية، كما كان يراقب قدوم الدوريات وعند رؤيته سيارات الجيش قادمه يبدأ بقرع لوح من الزينكو بعصاه حيث وصل من الحالة الصحية الى ان يسير على زوج من العصي.

 كان الفن الملتزم بتنوع أدواته أحد الاسلحة التي وظفتها الشعوب المقاومة لنيل حريتها، وفي ثورتنا الفلسطينية هناك من امتلك الحس المرهف أو القلم فكتبوا وصدحت حناجرهم بأشعار الثورة، كتبوا للورد والسنابل وغنوا للبيارق والبنادق في ساحات الاشتباك وعاشوا انتصارات المعارك، حبرهم من دموع ودماء، وخلفوا وراءهم اغنيات تحفظ عن ظهر قلب لترددها الجموع

مشاركة