المؤتمر الوطني الفلسطيني في مرمى النيران
الجمعة 28/02/2025- أسامة أبو ارشيد
تداعى قرابة 400 شخصية فلسطينية، بين 17 – 19 من فبراير/ شباط الحالي، إلى مؤتمر وطني فلسطيني جامع، عقدوه في الدوحة. كان الحضور، الذين شاركوا بصفاتهم الشخصية، من كلّ الخلفيات والتوجّهات التي يزخر بها المجتمع الفلسطيني، كما أنهم جاؤوا من ساحات الوجود الفلسطيني كلّها تقريباً، بما فيها الداخل. أيضاً، لم يغب التوازن الجيلي والجندري قدر الإمكان عن الحضور الحاشد. بمعنى أن الغالبية الفلسطينية كانت ممثّلة جيّداً، ولم تكن ثمَّة محاولات لاستبعاد أحد، ذلك أن كلّ من وقع بيان “نداء من أجل قيادة فلسطينية موحّدة”، كان مدعواً للمشاركة بشكل طبيعي وتلقائي. وللعلم، كان البيان علنياً ومنشوراً منذ أشهر في مواقع المؤتمر، وجرت مشاركته بشكل كثيف ليكون أكثر تمثيليّة وتعبيراً عن الكلّ الفلسطيني. أمّا فكرة المؤتمر الأساسية، كما صاغها بيان “نداء من أجل قيادة فلسطينية موحّدة”، فلا يظنّ كاتب هذه السطور أن فلسطينيّيْن وطنييْن يختلفان فيها. ثمَّة عملية إبادة يتعرّض لها قطاع غزّة، ومحاولات لتهجير مواطنيه وتقرير مستقبله بعيداً عن الفلسطينيين، وثمَّة توحّش إسرائيلي مقابل في الضفة الغربية، يستهدف ضمّها وتهجير مواطنيها كذلك. ومع تسجيل التقدير لصمود الشعب الفلسطيني، ومآثره التي لا تُنكَر “لم يعد من الممكن مواجهة متطلّبات المرحلة الحالية الخطرة، التي سوف تلي العدوان، من غير قيادة فلسطينية موحّدة”، في “وجود استراتيجيتَين متناقضتَين”. ومن ثمَّ كانت الدعوة “إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أساس وحدوي، بحيث تشمل جميع القوى السياسية والهيئات الأهلية والمدنية والاقتصادية الفاعلة”، فتكون هناك استراتيجية وطنية واحدة تعبّر عن الكلّ الفلسطيني، وليس طرفاً واحداً متحكّماً فيها فقط.
كان من المتوقّع والمفهوم أن تستفزّ هذه الدعوة، وهذه المبادرة، القيادة المتحكّمة بمفاصل منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية في رام الله. إنها القيادة نفسها التي اختطفت منظمة التحرير عقوداً، وقاومت دعواتٍ إلى إصلاحها، بل جعلت من المنظمة دائرة هامشية ملحقة بالسلطة الفلسطينية، رغم أنها (المنظمة) من تحظى بالاعتراف الدولي، وهي من تمثّل الشعب الفلسطيني رسمياً، في كل أماكن وجوده. لقد نشأت أجيال فلسطينية منذ أوائل تسعينيّات القرن الماضي (على الأقل) لا تعرف كثيراً عن منظمة التحرير الفلسطينية، بل إن كثيراً منهم، في كلّ أماكن الوجود الفلسطيني، لا يعترفون بها “ممثّلاً شرعياً ووحيداً” للشعب الفلسطيني. هذه النتيجة الكارثية التي انتهينا إليها ليست حصيلة تحريض فلسطيني معارض على المنظمة، بقدر ما إنها نتاج أفعال قيادة المنظمة نفسها، التي همّشتها وهشّمتها وجعلتها غير ذات صلة. ولا داعي هنا لسرد عشرات اللقاءات والاجتماعات الفصائلية التي عُقِدت منذ أواخر ثمانينيّات القرن الماضي، في دول وعواصم مختلفة، وصلت إلى موسكو وبكين، ومرّت في رام الله وغزّة وبيروت والقاهرة والجزائر وصنعاء ودكار، وقبل ذلك في تونس والخرطوم… إلخ، بهدف إصلاح منظمة التحرير، ورأب الصدع بين حركتي فتح وحماس، انتهت كلّها (للأسف!) إلى فشل. من ثمَّ، من حقّ الشعب الفلسطيني الآن، وقواه الحية، أن يكون لهم كلمة في إصلاح هذا الخلل البنيوي الذي يهدّد قضيتنا ووطننا كلّنا. هذا لا يعني أننا طوباويون وساذجون فيما يتعلّق بكيفية ردِّ القيادة الفلسطينية المتحكّمة، التي لم تتردّد في تكرار المعزوفة المشروخة ذاتها عن “الأجندة الخارجية”، ومساعي سحب شرعية التمثيل من منظمة التحرير التي حطّمتها هي نفسها. الأمر جدٌّ متعلّق اليوم بوجودنا شعباً فلسطينياً، ولم يعد الهزل يُجدي في مواطن الجدِّ. أيضاً، محاولات بعضهم حصر المشروع الوطني الفلسطيني في تنافس حركتي فتح وحماس ستكون له تداعيات وطنية هائلة وكارثية على القضية الفلسطينية.
إذاً، كان ردّ القيادة الفلسطينية الرسمية متوقّعاً، وفعلاً لم تخيّب التوقّعات، عبر كيل اتهامات التخوين للمؤتمر الوطني الفلسطيني، ومنع كثيرين من المشاركين فيه من السفر من الضفة الغربية، وتقديم محسوبين على “فتح” إلى محاكمات تنظيمية. لكن ماذا عن بعض حلفاء الموقف والرؤية والهمّ الوطني الجامع؟ تلكم هي النيران الصديقة التي ينبغي التوقّف عندها، وبعض من اتهم وشكّك هنا أصدقاء قريبون منّي، وأكنّ لهم وِدّاً واحتراماً. خلفيات (ومسوغات) هجوم هؤلاء ونقدهم تعدّدت، منهم مَن يرى في منظمة التحرير جثّة هامدة ينبغي دفنها والترحّم عليها، ومن ثمَّ يرون في أي محاولة لإصلاحها عبثاً وتضييعاً للوقت. ومنهم من يتّفق مع القيادة الرسمية الفلسطينية في التشكيك في دور قطر لانعقاد المؤتمر في عاصمتها، ومنهم من زعم أنه جرى استبعاد جهات ومؤسّسات من المشاركة، ومنهم من قال إن هذا المؤتمر واجهة سياسية لتيّار الأسير مروان البرغوثي في حركة فتح. ومنهم من يشكّك في دوافع المشاركين أنفسهم في المؤتمر، مفترضين أن هناك “مايسترو”، هو المفكّر الفلسطيني والعربي عزمي بشارة، يدير المشهد كلّه، ومنهم من اتهم المؤتمر بالتخلّي عن المقاومة المسلّحة. ومنهم من ذهب إلى أبعد من ذلك إلى حدّ ادّعاء أن المؤتمر تبنّى “حلّ الدولتَين”، وتنازل عن فلسطين التاريخية. ومنهم، طبعاً، مَن جمع هذه الاتهامات والمزاعم والادّعاءات في بوتقة واحدة، وقدّمها في لائحة اتهام واحدة.
لستُ هنا بصدد تقديم تفنيد مفصّل لكلّ واحدة من الاتهامات والمزاعم تلك، ولكن هذا لا يمنع من تقديم بعض إضاءات عليها، بصفتي من المشاركين في فكرة المؤتمر منذ بواكيره الأولى. والحديث هنا موجّه إلى أصحاب النيران الصديقة، وليس للقيادة الرسمية الفلسطينية التي لا تهمّها الحقيقة، بقدر ما يهمّها أن تبقى مسيطرة ومتحكّمة ومتسلطة على المشروع الوطني الفلسطيني. بداية، قرابة الأربعمائة شخص الذين اجتمعوا في الدوحة، جاء معظمهم على حسابهم الشخصي، ومَن لم يتمكّنوا من تغطية نفقات سفرهم وإقامتهم، تكفّلت بهم مساهمات شخصية من المؤتمرين أنفسهم، ومن بعض رجال الأعمال الفلسطينيين. ثانياً، الأربعمائة شخص الذين حضروا، كانوا من خلفيات فكرية وسياسية وثقافية وجيلية وجغرافية متعدّدة، لا يجمعهم إلا الهمُّ الوطني وتخوفهم على مستقبل القضية الفلسطينية وشعبها. أمّا في التفاصيل، فهم لم يكونوا كلّهم على قلب رجل واحد. كان فيهم المتشكّك بمنطقية محاولة إصلاح منظمة التحرير. وكان فيهم من لا يرى إلا في المنظمة (بعد إصلاحها) عنواناً للفلسطينيين. أيضاً، كثيرون طرحوا سؤال: ماذا بعد إذا رفضت القيادة الرسمية كلّ دعوات الإصلاح؟ إذن، الافتراض أن هؤلاء “متآمرون” لا “مؤتمرون” فيه شطط يجانب الصواب، والدعوة التي انتهت إلى تبنّي إصلاح المنظمة كانت خيار الغالبية العظمى. وهذا يقود إلى نقطة ثالثة، أن الذين جاءوا إلى الدوحة بدافع المسؤولية نحو قضيتنا ومستقبلها جسّدوا حقيقة الديمقراطية التي نطلبها في منظمة التحرير. كان هؤلاء على مستويات عالية من التأهيل والإمكانات، فيهم مناضلون راسخون، فيهم أستاذة جامعيون، فيهم رجال أعمال ناجحون، فيهم مهندسون وأطباء وطلاب ونشطاء سياسيون ومدنيون، وشخصيات وطنية واجتماعية مرموقة. من ثمَّ من المعيب افتراض أن هؤلاء كانوا هناك مجرّد ديكورات. كانت اجتماعاتنا حادّة في بعض جلساتها. هناك من صرخ بأعلى صوته. هناك من اختلف مع آخرين. هناك من اعترض على بعض الإجراءات والعبارات. وهناك من انسحب مغاضباً. ولكن، في النتيجة، عاد الكلّ، بعد أن استوعب بعضهم غيرة بعض على قضيتنا الجامعة، ليكون مساهماً، بعد إجراء التعديلات والمواءمات اللازمة، في صياغة هذا المشروع للضغط باتجاه تمثيل عادل وشامل تستحقّه فلسطين منا.
تتصّل النقطة السابقة برابعة، تلكم هي المتعلّقة بدور عزمي بشارة. ولا أخفي شعوري بالأسى وأنا أناقش هذه الفكرة، ذلك أنه لا يعيب بشارة، ولا المؤتمر الوطني الفلسطيني، إن كان بينهما صلة. عزمي بشارة مناضل ومفكّر فلسطيني وقومي، صاحب تاريخ معروف. مثله يُفتخر به، ولا يكون عنواناً للانتقاص. من يعرفني يعلم أن خلفيتي الفكرية مختلفة إلى حدّ كبير عن خلفية بشارة الفكرية، إلا أني أتفق معه في السعي إلى النهوض بالواقع العربي والفلسطيني الآسن، حتى وإن كان هناك اختلاف في التفاصيل، لن أتردّد في تسطيرها حين تكون هناك حاجة، من دون أن يفسد ذلك للودّ قضية. ومع ذلك، فإن افتراض أن 400 شخص فيهم عشرات من أرقى الكفاءات الفلسطينية في المجالات كلّها، كان يحرّكهم عزمي بشارة من وراء ستار، فيه إهانة للكلّ الفلسطيني. عزمي بشارة أكبر من ذلك. ومن شاركوا في المؤتمر ليسوا “أراجوزات”، وهم كبار كذلك، ويكفي أن نذكر هنا اسمَي مصطفى البرغوثي وأنيس القاسم. ولا يقدّم مصلحة شخصية على حساب مصلحة وطنية جامعة إلا من كان رخيصاً في ذاته. عيب أن تُطلَق مثل هذه الافتراءات من أناسٍ نحسب فيهم خيراً وغيرة على المشروع الوطني الفلسطيني. وعيب أن يصرّ بعضهم على عدّ عزمي بشارة شبهة، لا شخصية وطنية يُفتخَر بها.
ينسحب الأمر ذاته على عقد المؤتمر في الدوحة. نفهم اتهامات القيادة الرسمية الفلسطينية ومزاعمها غير ذات الصدقية، أمّا أن يشكّك بعض من خبروا هم أنفسهم المساحة التي تتيحها قطر لحرّية العمل والتعبير، فهذا أمر آخر. بداية، كانت الدوحة آخر خيار لنا لعقد المؤتمر، لقد حاولنا مع عواصم عربية وأفريقية ومسلمة أخرى، إلا أنهم اعتذروا عن استضافة المؤتمر، وكانت هناك فِكَر حول عقد المؤتمر في بعض دول أميركا اللاتينية، لكن لم يكن بالإمكان ترتيب ذلك لوجستياً. أبعد ذلك تُلام قطر على أنها سمحت بعقد مؤتمرٍ وطني فلسطيني على أرضها لم تحاول أبداً التدخّل في تفاصيله ومخرجاته؟ أصحاب هذا المنطق المعوجّ هم أنفسهم الذين كانوا يشكّكون في دعم قطر قطاع غزّة بالغاز والوقود ورواتب الموظّفين، وهم أنفسهم الذين شكّكوا في دورها في مفاوضات تبادل الأسرى، وهم أنفسهم الذين شكّكوا في المساعدات القطرية الإنسانية لقطاع غزّة. ولا أعرف ما الذي يريده هؤلاء، هم يفترضون أن أيادي قطر الخيّرة تحكمها نوايا خبيثة، ولكنّهم عاجزون عن إثباتها.
أيضاً، لم يكن المؤتمر مؤتمر تيّار مروان البرغوثي في حركة فتح، وهو قائد فلسطيني وشخصية وطنية لها حضور وقبول شعبي واسع بشكل لا يقبل الجدال. هذا لا يعني أن تيّار مروان لم يكن حاضراً، ولكن حضورهم كان شخصياتٍ وطنية مناضلة (كأحمد غنيم وآخرين)، وهم كانوا (مثل غيرهم)، جزءاً من النقاش والديمقراطية الفلسطينية بأبهى تجلياتها. وبالمناسبة، لم تُدعَ أي جهة أو تكتل بوصفها تيّاراتٍ، إنما العضوية كانت (وما زالت) مفتوحة على أساس شخصي. أيضاً، لم يتنازل المؤتمر عن فلسطين التاريخية، كيف، وبيانه الختامي يؤكّد بوضوح “وحدة الأرض، ووحدة الشعب، ووحدة النضال والمصير، ووحدة الرواية، ووحدة النظام السياسي، وحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره”! كما أنه لم ينقض حقّ المقاومة، إذ “أكّد المؤتمر حقّ الشعب الفلسطيني في النضال والمقاومة بالأشكال كافة، بما ينسجم مع أحكام القانون الدولي، لضمان نجاح الفلسطينيين في إسقاط مشروع الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، وإنهاء الاحتلال، و(نظام الأبارتهايد) الفصل العنصري”. الذين صاغوا البيان عاملون في الميدان، ولا يُنَظِّرونَ من صروح عاجية، وهم يدركون الحساسيات والتداعيات القانونية المحتملة في كثير من أماكن الوجود الفلسطيني. وفي النهاية، نحن نحاول إشعال شمعة، فليرنا مَن يلعنون الظلام ما بديلهم.
- عن العربي الجديد