logo
المغالطات اللغوية في مجلس الأمن الدولي ـ المساواة بين القاتل والضحية
الجمعة 6/05/2022

  • عبد الحميد صيام

تثير حنقي عبارات تكاد تتكرر في معظم خطابات مندوبي الدول عند المناقشة الشهرية للقضية الفلسطينية في مجلس الأمن الدولي. لقد تم تعميم مجموعة مصطلحات هجينة وغامضة وملغومة في العقود الخمسة الماضية، مع بداية انحدار المجموعة العربية في الأمم المتحدة، بعد خروج مصر كامب ديفيد عن الإجماع العربي وتفرق العرب وتشتتهم خلال الحرب العراقية الإيرانية، واستكمال مرحلة الانهيار باحتلال العراق للكويت عام 1990.

خطرت لي هذه الفكرة عندما كنت أتابع اجتماعا موسعا يوم 25 إبريل الماضي حول فلسطين وأحداث القدس تحدث فيه 45 مندوبا، إضافة إلى منسق الأمم المتحدة لعملية السلام. لقد طفحت تلك الكلمات بمصطلحات مكررة، في رأينا، يجب أن تلغى أو تغيّر أو تعدل، لأن اللغة ليست فقط تعبيرات صوتية، بل منظومة أفكار وتعبير عن حضارة وتاريخ ومزاج شعبي وقوة تفجر الطاقات المكنونة، أو إبر مخدر تقتل روح التحدي والابتكار. ودعنا نراجع بعض تلك المصطلحات والمفردات:

*خلال ولاية الأمين العام السابق بان كي مون، والأمين العام الحالي أنطونيو غوتيريش، ومنسقي عملية السلام السابق نيكولاي ملادينوف، والحالي تور وينسيلاند، أقحمت مصطلحات جديدة فيها انحراف عن اللغة المنسجمة مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، واستبدلت بأخرى جديدة ملغومة، فقد أقحم مصطلح «جبل الهيكل» في كل مرة يستخدم الاسم الصحيح للحرم الشريف وهو المصطلح الذي استخدم رسميا في القرار 271 (1969) عند محاولة حرقه على يديّ يهودي أسترالي متطرف فقد نص القرار: «على حماية الحرم الشريف ووقف الأنشطة كافة التي تعمل على تغيير معالم المدينة» لكن مصطلح جبل الهيكل الذي يلحقونه بعد ذكر الحرم الشريف بدأ يثبت في خطابات كثيرين من المسؤولين الدوليين والسفراء الغربيين، علما أن اليونسكو حسمت الجدل باتخاذها قرارا واضحا في كون منطقة الحرم الشريف إسلامية فقط. ففي شهر أكتوبر 2016 اعتمدت قرارا نفى وجود أي ارتباط ديني لليهود في الحرم الشريف بما في ذلك حائط البراق، واعتبرته تراثا إسلاميا خالصا.

لقد أقمحت الدول الغربية لغة تساوي بين الضحية والجلاد عندما يطالبون الأطراف الأساسية في النزاع بضبط النفس والعمل على التهدئة والابتعاد عن التحريض، وكأن فلسطين والكيان الصهيوني متساويان في القوة والعَدد والعُدد، والإمكانيات والكفاءة القتالية جوا وبحرا وأرضا، والتسلح والتدريب وامتلاك التقنيات الحديثة والاستخبارات وأجهزة التنصت والمراقبة والتجسس، والأموال والمساعدات الخارجية وغيرها. هذه اللغة الفجة جريمة في حد ذاتها، وانحراف خطير عن جوهر الصراع بين شعب يرزح تحت الاحتلال وقوة قائمة على الاحتلال. فهل هناك جيشان متساويان يلتقيان في ساحة الوغى وقد «تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم» وأقسم كل منهما للعمل على إفناء الآخر ولا مجال لوقف الحرب إلا بتدخل الوسطاء على طريقة هرم بن سنان والحارث بن عوف في «داحس والغبراء». إن هذا النهج في التعامل مع ما يجري في فلسطين بشكل عام وما يجري في القدس بشكل خاص لا يزيد عن كونه إعطاء رخصة إضافية للقاهر الظالم المعتدي للتمادي في غيّه ورعونته وبطشه من جهة، ومن جهة أخرى مطالبة الضحية بالاستكانة والخنوع والهدوء والتسليم بالقضاء، والرضوخ لإرادة القوي. هذا أمر لا يقبل به إلا خنوع، وطُعم ظاهره كلام معسول لكن باطنه سمّ زعاف.

*حل الدولتين، تتكرر هذه الجملة في معظم الخطابات، بما فيها خطاب المندوب الفلسطيني، إلا من مندوبين أو ثلاثة. فالحل للقضية الفلسطينية، كما يقول وينسيلاند «تحقيق دولتين تعيشان جنباً إلى جنب بسلام وأمن، على أساس خطوط 1967، انسجاما مع قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي والاتفاقيات السابقة الموقعة بين الطرفين». لقد دخلت هذه العبارة إلى مجلس الأمن عندما كانت إدارة بوش تستعد لغزو العراق فتبنت قرارين في مجلس الأمن، القرار 1379 (2002) الذي تحدث في ديباجته فقط عن «رؤية حل الدولتين» ثم تجسدت تلك الرؤية في ما سمي «خريطة الطريق» وأوكل تنفيذ الخريطة للجنة رباعية مكونة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي والأمم المتحدة، ثم اعتمد القرار 1515 بعد مؤتمر مدريد للسلام بتاريخ 19 نوفمبر (2003) الذي نص على اعتماد خريطة طريق اللجنة الرباعية القائمة على التوصل لحل دائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس الدولتين، كما دعا الأطراف إلى الوفاء بالتزاماتهم بموجب الرباعية وتحقيق رؤية دولتين تعيشان جنباً إلى جنب. وقد ذكرت كوندليزا رايس حرفيا أن قيام الدولية الفلسطينية سيكون عام 2005. وللعلم فإن أول بند في خريطة الطريق يكشف عمق المؤامرة على الشعب الفلسطيني حيث ينص على: «يقوم الفلسطينيون بحل أجهزة أمن السلطة وإصلاح الهياكل، وعلى الفلسطينيين نبذ العنف والإرهاب والتحريض وتعلم السلام.. ويجب على الفلسطينيين تفكيك الجماعات المسلحة ومصادرة جميع الأسلحة غير المشروعة». إنها دعوة لحرب أهلية وليس لدولة مستقلة وعاصمتها القدس الشريف. منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم ومصطلح حل الدولتين يتكرر حتى أصبحت العبارة فارغة لا معنى لها تكررها كل الدول، من دون تمحيص أو تفكير أو محاولة الإجابة على أسئلة مثل متى وأين وكيف، والمستوطنات تنتشر في أنحاء المناطق كافة التي من المفروض أنها مخصصة للدولة الفلسطينية العتيدة. وللإمعان في تعميم وهم الدولة، تم الاعتراف من الناحية القانونية بدولة فلسطين عام 2012 لكن منحت وضع المراقب في الأمم المتحدة، وطارت القيادة الفلسطينية من الفرح، واعتبرته إنجازا تاريخيا، علما أنه تضمن تنازلا عن فلسطين التاريخية، أي ما يعادل 78% من أرض فلسطين، كما حدث في اتفاقية أوسلو سيئة السمعة. فعندما يلقي مسؤول فلسطيني كلمة في مجلس الأمن أو الجمعية العامة توضع أمامه يافطة كتب عليها «دولة فلسطين». ونحن ما زلنا نسأل أين هي دولة فلسطين المستقلة؟ هل هناك انسان عاقل وموضوعي ما زال يعتقد أن حل الدولتين ممكن؟ هل بقيت أرض كفاية لتقام عليها الدولة المستقلة المترابطة القابلة للحياة وذات السيادة؟

*كان العرب هنا يطلقون على الأمين العام السابق بان كي مون لقب «الأمين العام القلق» لكثرة ما عبر في بياناته عن القلق. وهذا الأمين العام ليس بأحسن منه. وهذه العبارة تستخدم عندما يكون هناك حدث مأساوي، أو مقتل أبرياء أو هدم مبان وغير ذلك. ودعني أوضح: هناك نوعان من رد الفعل على حدث جسيم يتطلب موقفا من الأمين العام أو ممثله، أو رئيس مجلس الأمن، أو المتحدث الرسمي. هناك رد فعل يكون بصياغة عبارات موجهة للحدث نفسه وفاعله، وهناك رد فعل يكون موجها للذات والموقف الذي أخذه المتكلم بخصوص ذلك الحدث الجسيم. فكل عبارة تستخدم «يدين أو يشجب أو يرفض أو يلوم أو ينتقد أو يطالب» فكلها موجهة للحدث والفاعل. أما إذا استخدم المتكلم مصطلحات انطباعية تشير إلى موقف الشخص، فهي أقل قوة في العرف الدبلوماسي مثل: أصيب بالقلق، بالحزن، بالدهشة، بالألم، بالصدمة، فكلها تعود على المتكلم وتحمي الفاعل أو تبعد عنه اللوم والإدانة والمسؤولية. وقد تخصص المسؤولون الأمميون في استخدام «أدان وأخواتها» عندما يتعلق الأمر بفعل فلسطيني مثل عملية تل أبيب أو الخضيرة، لكن اللغة تلبس قفازا من حرير ويتم استخدام عبارة «التعبير عن القلق» وأخواتها كلما قامت إسرائيل بعمل شنيع مثل قتل الأطفال أو النساء أو الشيوخ أو المسنين أو الممرضات أو الصحافيين.

لغاية أيام كوفي عنان، لم تكن الأمم المتحدة تصدر أي بيانات لقتل جنود أو مستوطنين في الأراضي المحتلة، باعتبار أن وجودهم هناك مخالف للقانون الدولي. تغير الأمر في عهد الأمينين الحالي والسابق وأصبح شجب قتل المستوطنين أمرا مألوفا. فعندما يتعلق الأمر بجرائم إسرائيل وما ترتكبه في حق الفلسطينيين يعبر الأمين العام عن قلقه وكذلك مبعوثه في فلسطين المحتلة. يقول وينيسلاند في بيانه الأخير في مجلس الأمن حول ما جرى في القدس والحرم الشريف: «لقد شهد هذا الشهر استمراراً مقلقاً للاتجاهات التي أشرت إليها مراراً وتكراراً في هذا المجلس، ولاسيما التدهور المزعزع لاستقرار الوضع الفلسطيني المحتل في أنحاء الضفة الغربية». فكل ما جرى من اقتحامات وإصابة العشرات واعتقال المئات كل ذلك فقط مدعاة للقلق، من دون أن نعرف مصدر تلك الاتجاهات المقلقة.

*أما مصطلح المجتمع الدولي الذي تلجأ إليه بيانات الخارجية الفلسطينية عندما تطالب «المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته وردع إسرائيل». فأود أن أطمئنها أنه لا يوجد مجتمع دولي قادر على الضغط أو الردع أو الوقوف في وجه المعتدي. القرار في يد مجلس الأمن وبالتحديد في أيدي الخمسة الكبار المسلحة بالفيتو. وكل المناشدات لمجموعة عدم الانحياز ومجموعة الـ77 زائد الصين، ومنظمة التعاون الإسلامي، فكلها لا تغير في الأمر شيء فقد طالبت مؤخرا 141 دولة في الجمعية العامة وقف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، من دون جدوى. إن الهروب إلى المجتمع الدولي لا يعني أكثر من التهرب من المسؤولية والقبول بالأمر الواقع والانهزامية والبحث عن غطاء للعجز الذاتي. فلا أحد سيردع إسرائيل إلا الشعب المتضرر من وجودها.

  • عن القدس العربي
مشاركة