بعد عقود على إغتياله: ناجي العلي يدق ناقوس الحضور الملتبس لفنان المقهورين
الجمعة 14/12/2018صيدا ـ شبابيك ـ إيمان جمال الرفاعي
يطرح حضور “حنظلة” الأيقونة التي أبدعها ناجي العلي وأمدتها معاناة الإنسان بالحياة، والرمزية التي إستحقها الفنان بعد مسيرة حافلة من الإنحياز للمقهورين على ظهر البسيطة سؤالا كبيرة عن تقصير عالمي، فلم تكن حياة وعطاء وموت العلي أقل مما كان عليه شعراء وكتاب وفنانين قاوموا الفاشية والنازية في حقب تاريخية حددت مسارات التاريخ.
“شبابيك” حاول تسليط الضوء على هذه الزاوية بطرح سؤالها على الذين عرفوا العلي، تابعوا مسيرته، وإستطاعوا فهم تجربته ووضعها في سياقها.
يقول الناقد والروائي محمد الأسعد “قد يكون لدي جزء من الجواب، لا الجواب كله، وهو التالي: ناجي العلي من الفنانيين النادرين على المستوى الفلسطيني والعربي والعالمي، فهو ناقد أخلاقي/سياسي ذو موقف واضح إلى جانب المضطهدين والمظلومين، خاصة وأنه من الفنانينن الفلسطينيين الذي لم يساوموا على فنهم، ولم يخضعوا لسطوة قيادة متسلطة تخلت عن جوهر القضية الفلسطينية منذ وقت مبكر يرجع إلى سبعينيات القرن الماضي، وقاومها بريشته وحقق لنفسه مكانة توازي مكانة جبهة مقاومة تعجز عن إيجادها “منظمات” و “أحزاب” على صعيد فلسطيني وعربي، فإذا أضفنا إلى هذا موقفه من قضايا التحرر العربية والعالمية، نجد أن إغتياله حياً وميتاً، أي بإطلاق الرصاص عليه في العام 1987، وتدمير تمثاله في مخيم عين الحلوة ومحاولات تشويه ملامحه على يد كتاب وشعراء مرتزقة (فلسطينيين بخاصة) رد فعل طبيعي لعقليات بنت الصهيونية مستعمراتها فيها”.

| محمد الأسعد – ناقد وروائي |
يضيف الأسعد في رده على “شبابيك”: ناجي العلي فنان عضوي، أي أنه فاعل حقيقي على صعيد جماهيري، لهذا يرفضه المستسلمون والراكضون وراء منافعهم في رام الله والعواصم العربية الرثة التي أعاد الغرب إستعمار بعضها، ويعمل على تدمير ما لم يستطع إستعماره. ولهذا السبب لم تعتن به مؤسسات عربية وعالمية، وقبل ذلك فلسطينية، ولم يستطع الفقراء الذين إنتصر لهم ناجي وقاوم صنوف الطغيان من أجلهم مد يد المساعدة على هذا الصعيد.
لكن ناجي حسب الأسعد: يظل راسخ الوجود في الضمير الشعبي، ويحتاج إلى أن يتم تحويله إلى خميرة فعالة قادرة على تخمير العجنة الفلسطينية والعربية كلها (الكيان الإجتماعي/الإقتصادي/السياسي).
ويشير إلى أن الحرب على فن ناجي، كوعي نقدي نفاذ، وعلى كل فن بمستواه، قائمة وأساسها عزله ومنع تفاعل الأجيال مع رؤيته ونهجه في التحليل والتفكير، قبل إغتياله وبعده.
من ناحيته يقول الكاتب الفلسطيني عوني صادق ل”شبابيك” إن ناجي كان معروفا وله شعبية طاغية على المستويين الوطني والقومي، ولم يكن مجهولا على المستوى العالمي أما لماذا لم يأخذ حقه، فلأن القيادة الفلسطينية كانت ألد أعداءه بسبب موقفه الوطني الذي لم يكن يقبل المساومة وفنه النقدي الذي لم يكن يحابي السياسات الرسمية الفلسطينية أو العربية.

| عوني صادق – كاتب فلسطيني |
ويشير إلى أن ناجي العلي كان فنانا من خارج السلطات، منحازا لفقراء شعبه وأمته، وضد الظلم والظالمين في العالم كله. ولأن ريشته إلتزمت بهذه الرؤية وهذا الموقف لم يكن ممكنا أن يأخذ حقه فالعالم يحكمه الظالمون والمستغلون وأعداء الحرية والإنسان.
كل هذه العوامل لم تحل دون أمل عوني صادق في أن يأتي اليوم الذي يأخذ فيه ناجي حقه من التقدير الذي يستحقه.
يقول الروائي مروان عبدالعال: لو أعدنا السؤال عن ناجي العلي إلى ناجي العلي ذاته، عن معنى تخليده، وبعد كل هذه السنوات من غيابه، وعلى سبيل الإفتراض أخاله سيسخر منا بأسلوب “حنظلة”.
يرى عبدالعال أنه لا يوجد رمز أكثر كثافة ثورية منه وهو المستمر أيقونة خالدة وتجسيد لذات نضالية عالمية لا يمكن أن تتلاشى أو تموت ، لذلك من صنع “حنظلة” لا ينتظر أحداً ليكرمه.
يستطرد قائلا إن ناجي أفضل من كرّم نفسه، ليس تكريم إحتفاليات بالمعنى التقليدي أو تكريم إستذكاري، بل تخليد للحضور المستمر وليس الغياب! تماماً كما فوّض شخصية “حنظلة” التي يضعها الشباب وساما على صدورهم وقلادة في أعناقهم.
يشير في سياق رده إلى أن “حنظلة” الايقونة الباقية والمنتشرة بقوة على جدران المخيم و في أنحاء مختلفة من العالم وهي رمز للقضية الفلسطينية، مستمرة على صفحات النشرات الثورية وقمصان أنصار فلسطين.
يصف “حنظلة” بأنه وجع مخيم عين الحلوة وأبناء المخيمات ولسان حال كل مناضل ومتمرد وثائر ضد الظلم وصوت الفقراء والبسطاء والمضطهدين والنازحين والذين يأكلهم الجوع ونيران الحروب.

| مروان عبدالعال – روائي فلسطيني |
يؤكد عبدالعال على أن ناجي العلي المتمرد ما زال يهزأ من المشهد الرسمي المهين والذين وضعوا الوطن جانباً وأشبعوا الناس إنقساماً على سلطة واهية، ويتساءل كيف يكرمه من فضحهم بريشته بالأسود والأبيض، تلك الكائنات الرخوة والمنتفخة والمنبطحة والمهزومة والعقول المُقفلة؟!
يضيف قائلا: هؤلاء هم أدوات محو الذاكرة والتلاعب بالوعي والتخريب المعنوي ورموز التفاهة وليس الثقافة. لو قدر لهم لأعادوا إغتياله مرة أخرى،لا ننسى التفجير الظلامي لنصبه التذكاري على مدخل عين الحلوة، ولا ننسى أنه تم حينها الرد بإطلاق إسمه على أكثر من مركز ومؤسسة ثقافية وشبابية وإجتماعية في المخيم.
ويعتقد عبدالعال أن التكريم الحقيقي لناجي العلي أن نستحق روح المقاوم العنيد الذي جسده ناجي العلي.
يؤكد الكاتب الصحفي التونسي رياض عمايرة أن ناجي العلي كان أكثر من رسّام ماهر وأبعد من لاجئ فلسطيني، فقد حمل القضيّة في قلبه وأعماله.
يصف لوحة العلي بأنها كانت خريطة واضحة المعالم لفلسطين حين تمّ تمزيق خريطتها التاريخية ويستطرد قائلا إن ريشة الفنان الشهيد كانت مسدّسا موجّها بإستمرار في وجه العدوّ.

| رياض عمايرة – كاتب صحفي تونسي |
يقول إن صاحب “حنظلة” شكّل إستثناءً في عالم الرّسم حين قدّم للعالم تعريفًا جديدا لرسام الكاريكاتور، فمن يسعى إلى إضحاك العالم وإيقاظه يمكن أن يكون غاضبًا، بل شديد الغضب كناجي العلي الذي كان “حنظلة” الحقيقيّ لا “خالق” “حنظلة” ذاك الصبيّ الذي صرنا نلمحه في كل شارع وكل مخيّم وكلّ حي في فلسطين.
ويؤكد أن العلي مثّل ظاهرة نضالية من الصعب أن تتكرر، فقد كان يرفع لاءاته ويمضي، لا يركع لسلطة ولا لعدوّ ولا يجامل أحدًا.
من ناحيته يقول الكاتب التونسي جمال قصودة: إن ناجي العلي “شجرة مباركة زيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة يكاد زيتها يُضيء ولو لم تمسسه نارٌ”، بين “طبريا” و “النّاصرة” نبتت تلك الشجرة المباركة في “قرية الشجرة” لتضيء بنورها كامل المعمورة، فهو الذي آنس بنقده اللاذع نارا وأتانا منها بألف قبس وهو الذي أوجد على النّار الهدى ودعانا لنهتدي بناره و نوره و لكنّنا أطفأناهما بأفواهنا، و ناجي العليّ جدار بمخيّم “عين الحلوة” تكسّرت على عتباته النصال على النصال، و في “عين الحلوة” أيضا يلتقي الجبلان ليتجاورا : الجبل الكنفانيّ برصاص حرفه والجبل العليّ بعلوّ كعبه وريشته القاتلة، هي الريشة قاتلة والتعلّق بفلسطين قاتل أيضا لهذا كان ناجي العلي في تمام الوعي بالموت القادم حين قال “اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت”. فهل مات حقّا ناجي العلي؟ هو الناجي الأخير من المحرقة، وهو الذي راوغ الرصاصة في شوارع لندن ليعيش فينا وفي ألف جيل قادم، ناجي العلي كحنظلة تماما أوقف ساعة عمره وربط دقّاتها وحركة العقارب بفلسطين، قد تبدو السّاعة للبعض متوقّفة.
يضيف قصودة “لكنّه الزمن السّرمدي غير القابل للقياس، “حنظلة” ما يزال رلى حدود اللحظة في سنته العاشرة التي خاض فيها التغريبة الفلسطينيّة وناجي العلّي أيضا ما يزال في نفس الشّارع اللندنيّ، ونحن نراه رأي عين وقلب في أزقّة مخيم “عين الحلوة” ، ونراه طفلا قبل ذلك في قرية “الشجرة”، و نراه بعد هذا وذاك صحفيّا لامعا وكاريكاتوريا مربكا في “الكويت”، و نراه في شارع “محمد علي” بالقاهرة و إن لم يزره ، ونراه يقلب الكتب في”شارع المتنبي” في بغداد، وكان معنا في ثورة الأحرار بسيدي بوزيد وكان في “ورشفانة”، و نراه أيضا على جبل “قاسيون” و نراه في “الحمراء “، و نراه في “عين مليلة” يزور قبر “العربي بن مهيدي”، و نراه في عيون النساء اللواتي يجمعن الزيتون، ونراه في معاول العمّال ومناجل الفلاحين، ونراه في قلوب المشرّدين والمتسكّعين ونراه في بنادق الثوّار الحالمين، ناجي لم يمت هو الناجي الأخير الذي لا يموت.

| جمال قصودة – كاتب تونسي |
يستطرد قصودة: كلّ ما سبق كاف لنقول إن الحياة السرمدية التي يعيشها الآن ناجي العليّ هي الأبقى و الأروع لأن المثقف المنحاز للتحت لن تلتفت إليه البنى الفوقية المهترئة، ناجي العلي إختار طريقه بوعي وليس بمقدونا أن نلومه بالأمس أو نلوم الواقع اليوم الذي تحركه البني التي أدار ظهره ولم يلتفت إليها.
ويعتقد أنه لو بحث ناجي العليّ عن التكريمات ما إنحاز للمفقرين والمعدمين، لهذا إبحثوا عنه في الفئة التي إنحاز إليها مشيرا إلى قوله “أنـا متهم بالإنحياز، وتلك تهمةٌ لا أنفيهـا. أنـا منحاز لمن هم تحت”. لمن هم ضحايا التكذيب وأطنان التظليلات وصنوف القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات. أنـا منحاز لمن ينامون في مصر بين القبور، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم. أنـا منحاز للذين يقضون في لبنـان ليلهم في شحذ السلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئهـا. وأخيـرًا أنـأ منحاز لمن يقراون كتاب الوطن في المخيمات”.
يضيف: إبحثوا عنه ستجدونه قطعا وشما على كتف المناضلة التونسية “لينا بن مهني” و ستجدونه في أغاني “ريم البنا”، وفي أهازيج “سناء موسى” وفي معلقة للشباب الرافض للتطبيع، وفي الحملات الإنتخابية لإتحادات الطلبة وفي تظاهرات الوحدويين، وستجدونه مع مطرقة ومنجل الشيوعيين، ستجدونه على عربة المناضل “المنصف الهويدي” وهو يبيع التين الشوكي في شوارع طبرقة التونسية وقد تجدونه أيضا في الحانات والخمّارات وعلى أبواب المواخير حتّى وهنا أذكر أن بائعات الهوى بماخور عبد الله قش قد رفضن قبول معاليم بيع أسجادهن لبعض القيادات الفلسطينية الذين إنبهروا بالحادثة فأعلموا بها الختيار ياسر عرفات فقال: “أخجلنا هذا الشعب التونسي” لهؤلاء جميعا إنحاز ناجي ولهذا من الغبن اليوم أن نبحث عنه في غيرهم، لن تجدوه في القاعات المترفة، و لا في المطاعم الفارهة، ولا في التظاهرات التي يحضر فيها من لم نختره ليكون وزيرا علينا، ولن تجدوه أيضا في قصور الملوك والرؤساء، ناجي ما يزال فينا وهذا لوحده كاف.
يعتقد الصحفي اليساري التونسي غسان بن خليفه أنّ الإجابة على هذين السؤالين شبه بديهيّة عندما ننظر إلى واقعنا اليوم. فإذا كان المقصود بالمستوى “الوطني” الوضع في فلسطين المحتلّة بيّن. هناك في رام الله سلطة لا مصلحة لها في تقديم نموذج الشهيد ناجي العلي، الذي تميّز بجذريته وتصدّيه للمفرّطين في الحقّ الفلسطيني. ونفس الأمر ينسحب على المستوَيين القومي والعالمي. ففي الوطن العربي، كما في أغلب بلدان العالم، تحكم أنظمة يمينية إمبريالية أو تابعة، ولا مصلحة لها في إبراز رمز يساري مقاوم من طينة ناجي العلي. لكنّ الإيجابي في الموضوع هو أنّ “أبا حنظلة” موجود، و”أخذ حقّه” إلى حدّ كبير، في وجدان الشعوب والأحرار في كلّ مكان حول العالم، خاصّة بالوطن العربي.

| غسان بن خليفه – صحفي يساري تونسي |
يضيف: شخصيا، لا أفهم معنى أن تكون هناك “مبادرات لتخليده”، نحن نتحدّث عن رمز للثورة والكلمة الحرّة والإلتزام. هذا النوع من الأشخاص لا يحتاجون لتظاهرات فلكلورية لتخليدهم، بل كلّ ما “يحتاجونه” هو أن يقتفي الآخرون خطاه ويواصلوا المسيرة.
في غيابه كما حضوره ما زال ناجي العلي قادرا على طرح الأسئلة الملتبسة بوضوح يثير الجدل ليحفر في الذاكرة والضمير ويلقي قفازه في وجه عالم تتآكل فيه قيم وتتوغل فيه أخرى

