logo
تسريبات واشنطن تفعّل قانون “ليهي” وتنهي عصر الدعم الأعمى
الثلاثاء 11/11/2025
  • سامية عيسى

شهد المشهد الإعلامي الأمريكي، بالتوازي مع التطورات السريعة في غزة، ما يمكن وصفه بـ”صحوة غير مسبوقة” في التغطية الصحافية، مدعومة بتسريبات لتقارير حكومية أمريكية بالغة السرية. إذ لم يعد النقاش يدور حول التعاطف مع إسرائيل، بل حول الالتزام القانوني للولايات المتحدة، بوقف المساعدات العسكرية عن إسرائيل وفقا لـ”قانون ليهي”.
هذا التحول ليس مجرد تغيير باللهجة الإعلامية، بل هو قوة ضاغطة تهدف إلى تفكيك عقيدة الدعم غير المشروط لإسرائيل، وله تداعيات مباشرة على السياسة الأمريكية الداخلية، والدعوى المقامة أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، بتهمة ارتكابها إبادة جماعية في غزة، وحتى على خطة ترامب لإنهاء الحرب في غزة، رغم ما يشوبها من عدم اليقين. تكمن أهمية الصحوة الإعلامية، في أنّها قدمت الدليل الموثوق الذي يفعّل “قانون ليهي”، الذي يُعد السند القانوني الأبرز في هذا التحول، فقد صُمم هذا التشريع لمنع تحويل الأموال والتدريب العسكري الأمريكي إلى وحدات أمنية أجنبية متورطة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتنص البنود التشريعية لـ”قانون ليهي” بوضوح على: “ألا تُقدم أي مساعدة… إلى أي وحدة من قوات الأمن التابعة لدولة أجنبية، إذا كان لدى وزير الخارجية معلومات موثوقة بأنّ هذه الوحدة ارتكبت انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان”. هذا النص تحول فجأة من بند قانوني مهمل إلى سلاح في يد المنتقدين، مدعوما بتقارير كبريات الصحف الأمريكية، حيث التوثيق يضع “قانون ليهي” في عين العاصفة، ويفرض المساءلة.
كان التوثيق الأكثر تأثيرا، هو ما كشفت عنه صحيفة “واشنطن بوست” في 30 أكتوبر 2025 عن وجود تقرير سري صادر عن مكتب المفتش العام بوزارة الخارجية الأمريكية “وجد مئات من انتهاكات حقوق الإنسان الإسرائيلية المحتملة في غزة.. الأمر الذي قد يستغرق الوزارة سنوات متعددة لمراجعته”. يشير هذا الكشف إلى أنّ التحدي لم يعد في إثبات وقوع الانتهاكات، بل في حجمها الهائل الذي يشير إلى نمط سلوكي كامل، ما يفرض ضغطا قانونيا على الإدارة لتطبيق “ليهي”. أكدّت أيضا الدوريات القانونية والأخبار المتخصصة مثل، “جاست سيكيوريتي” في31 أكتوبر 2025، خطورة الوثيقة المسربة، بعد نشرها وجود تقرير سري من مكتب المفتش العام التابع لوزارة الخارجية بيّن فيه “أنّ الوحدات العسكرية الإسرائيلية ارتكبت “مئات” الانتهاكات المحتملة لقانون حقوق الإنسان الأمريكي في غزة”، ما يستدعي اتخاذ إجراء قانوني عاجل وفق “قانون ليهي”. يأتي هذا بعد عام تقريبا من حملة أمريكية واسعة من إدارة بايدن والكونغرس الأمريكي، على المدّعي العام للجنائية الدولية كريم خان لإصداره مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت، بتهمة ارتكابهما جرائم حرب في غزة، اتهم على إثرها بمعاداة السامية، فما الذي تغير الآن؟
الصحوة الإعلامية بسبب تآكل حصانة الحليف
تكمن أسباب هذه “الصحوة” في تآكل الحصانة الإعلامية للحليف الإسرائيلي، وتعاظم عزلته الدولية، حيث أسهمت ثلاثة عوامل متقاطعة في هذا التحول: *الانتهاكات على نطاق الإبادة: ضخامة التدمير وتوثيق مقتل ما يناهز 69 ألف شهيد وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء، كسَر قدرة وسائل الإعلام على تغطية الأحداث “بتوازن” زائف.
*الاستقالات الداخلية والتسريبات الحكومية: أدت الخلافات داخل الإدارة الأمريكية -لاسيما في وزارة الخارجية- وعلى وقع الاحتجاجات العارمة ضد الإبادة الجماعية في غزة، إلى تسريب الوثائق، التي تثبت صحة التقارير الحقوقية، ما قلل من قدرة المؤسسات على تجاهلها.
*صعود الأصوات النقدية البارزة: مثل ريتشارد فالك الأستاذ الفخري للقانون الدولي، ومقرر الأمم المتحدة الخاص السابق لانتهاكات حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، الذي ركز في أكتوبر 2025 “على مسؤولية الولايات المتحدة القانونية” بالقول: “إنّ استمرار الدعم الدبلوماسي والعسكري الأمريكي لإسرائيل، حتى بعد توثيق الأدلة على الجرائم الجسيمة، يرقى إلى مستوى التواطؤ الذي يجب أن يحاسب عليه القانون الدولي”. فيما عبّر الكاتب الأمريكي اليهودي البارز بيتر باينارت “عن صدمته الأخلاقية والقانونية، فكتب في 1 نوفمبر 2025: “إذا كان قانون ليهي غير قابل للتطبيق الآن في مواجهة مئات الانتهاكات الموثقة، والدمار الشامل في غزة، فإنّه ليس سوى كلام فارغ. الإدارة الأمريكية اختارت التملص من القانون لحماية شريكها وهذه وصمة عار أخلاقية”. أما نيكولاس كريستوف من “نيويورك تايمز”، الحائز جائزة الـ”بوليتزر”، فصعّد من لهجته الإنسانية الموجهة لصنّاع القرار، فقال في 31 أكتوبر 2025: “لقد شاهدت المأساة في العديد من مناطق النزاع حول العالم، لكن ما يجري في غزة لا يصدّق. يجب أن تتوقف أمريكا عن تزويد إسرائيل بالقنابل التي تسقطها على المدنيين”.
تأثير التحول على السياسة الأمريكية والدعوى الدولية
أدت هذه الصحوة الإعلامية إلى تغيير جذري في المزاج الأمريكي العام على المستويين الشعبي والرسمي، مدفوعة بـ “الاحتجاجات العامة الكبرى” التي هزت- وما تزال تهز- الجامعات والمدن الأمريكية، حيث يرى جيل الشباب – الذي يمثل القاعدة التصويتية التقدمية – في استمرار الدعم العسكري لحرب تثير شكوكاً بالإبادة الجماعية، إهانة للقيم الأمريكية، ما يضع ضغطاً مباشراً على الحزب الحاكم، وربما كانت هي السبب في التشدد الذي يمارسه ترامب على نتنياهو لتثبيت خطته في إنهاء الحرب على غزة، وإن كان هناك ثمة مصالح أمريكية أخرى خلف الستار ما زالت غامضة أو مريبة. إن التوثيق الإعلامي الذي يستند إلى تقارير حكومية أمريكية أصبح بمثابة “شهادة من الداخل” تعزز موقف جنوب افريقيا، في الدعوى التي أقامتها أمام “محكمة العدل الدولية” ضد إسرائيل بتهمة الشروع في ارتكاب إبادة جماعية في غزة. فالمحكمة تبحث عن أدلة على “النية الجنائية”، أو النطاق المنهجي للأفعال. وعندما يشير تقرير سريّ لأكبر حليف لإسرائيل إلى”مئات الانتهاكات المحتملة”، فإنّ ذلك يدعم بشكل كبير حجة جنوب افريقيا بأنّ الأفعال المرتكبة واسعة النطاق لدرجة يصعب معها اعتبارها “مجرد أخطاء حرب”. في خضم هذا المناخ السياسي والإعلامي الملتهب، وفي ظل تراجع الإجماع التقليدي حول دعم إسرائيل، يُظهر الرئيس دونالد ترامب تشدداً واضحاً في المطالبة بإنهاء سريع للحرب والضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. هذا التشدد ليس عاطفياً، بل هو استراتيجية سياسية تعتمد على:
إنهاء الأزمة: يرى ترامب أن استمرار الحرب في غزة يضر بالمصالح الأمريكية، ويغذي المعارضة الداخلية ضده. لذا يصر على تطبيق خطته التي تهدف إلى إقامة إدارة مؤقتة في غزة، قد تتضمن شخصيات دولية مثل توني بلير (كما أشير في التقارير الأخيرة التي تناولت خطط ما بعد الحرب) وهذا رهن بالتطورات والتجاذبات، وبالصورة التي يحاول ترامب تقمصها كـ”صانع سلام”.
تجنب العواقب القانونية: يهدف ترامب إلى فرض حل سريع وحاسم لتجنب وصول الأزمة إلى مرحلة الإدانة الدولية القاطعة (كأصدار رأي قانوني بارتكاب الإبادة الجماعية من محكمة العدل الدولية)، التي ستُلزم الولايات المتحدة الأمريكية بقطع الدعم بالكامل عن إسرائيل بموجب القانون. ويظهر هذا الموقف أنّ ترامب يستغل التوتر السياسي الحالي عبر تقديم نفسه كبديل قادر على فرض إنهاء عملي للنزاع، حتى لو عنى ذلك الضغط على الحليف الإسرائيلي. مع أنّ تطبيق “قانون ليهي” لن يمنع من إدانة إسرائيل بالإبادة الجماعية.
نهاية عصر الشيك على بياض
إن التوثيق الإعلامي غير المسبوق في الصحافة الأمريكية، المدعوم بالوثائق السرية، يمثل نهاية عصر “الشيك على بياض” لإسرائيل. فقد أثبتت هذه الصحوة أنّ الدعم العسكري الأمريكي قد تحول إلى عبء قانوني وأخلاقي لا يمكن تحمله. في هذا المناخ الجديد، سيصبح “قانون ليهي” والتأثير المباشر للتوثيق الصحافي على محكمة العدل الدولية، عاملين حاسمين في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، التي تتجه نحو المزيد من المحاسبة وفرض الشروط على إسرائيل.

  • عن القدس العربي
مشاركة