تشخيص للوضع الفلسطيني – ما العمل؟
الجمعة 26/08/2022- عبد الحميد صيام
اخترت كلمة تشخيص في عنوان المقال عن قصد، فقد قمت بتجربة أشبه بعرض مريض يشكو من علل جمة ومعقدة، بعضها مزمن وبعضها حديث العهد، أو متفرع عن داء كمين، أمام مجموعة من الأطباء متعددي الاختصاصات وطلبت منهم أن يشخصوا العلل التي يعاني منها هذا المريض، الذي لم يصل به الداء حد الموت ولا هو متعاف من الأمراض، كي يعيش حياة طبيعية. وكالعادة كل طبيب ينطلق في تشخيصه من اختصاصه، لكن مجموع ما يصدر عنهم من آراء شتى قد يشكل تشخيصا تفصيليا لحالة المريض.
قمت بتجربة مثيلة أثناء زيارتي للوطن، حيث التقيت بمجموعة من الأصدقاء القدامى في حديقة جميلة قيد الإنشاء تدعى «منتجع الفوار» على تلال بلدة «أبو قش» الجميلة والقريبة من رام الله. جلسنا مع ساعات المساء حول طاولة كبيرة تحت أشجار السرو والرمان والتين والعنب والزيتون، نستمتع بغروب الشمس من غربي التلال التي تبدو عن بعد وكأنها تضم مدينة يافا، ومن الجهة الجنوبية الشرقية تبدو مدينة رام الله بعماراتها الشاهقة كأنها كتل حجرية وإسمنتية عظيمة تتلاصق وتتزاحم حتى لا تكاد ترى فيها أي مساحات خضراء. من بين الحضور طبيب ومهندس ووزير سابق ومسؤول سابق في بلدية رام الله ومهندس جيولوجي مغترب، وأسير سابق محرر وأستاذ جامعي وسيدة أعمال في الولايات المتحدة. كلهم الآن مستقلون لا ينتمون لأي فصيل وبعيدون عن التعصب، ويزنون الكلام قبل إطلاقه وعلى قدر من الثقافة والخبرة والدراية. جلست إلى رأس الطاولة وطلبت من كل واحد منهم أن يشخص لي الوضع الفلسطيني، كما يراه محاولا الإجابة عن السؤال ما العمل؟
ولأن هذه عينة ممتازة تمثل شرائح مهمة من المجتمع الفلسطيني، مع الاعتذار لنقص في تمثيل الشباب، رأيت أن أطرح ما جاء في مداخلات من تكلم منهم، حيث آثر بعضهم الاستماع. وسأذكر جوهر الطرح والتشخيص الذي سمعته مبتعدا عن التكرار.
الأسير المحرر: غزت هذه الأرض شعوب كثيرة وخرجوا. الغزاة في النهاية لا بد راحلون. انظر كم بقي من الفلسطينيين في مناطق 48 لم يكونوا يزيدون عن 150000 أصبحوا الآن مليونين، بالتالي فالناس موجودون. في عام 1963، قال لنا معلم التاريخ وكنا في المرحلة الإعدادية سيأتي وقت يتخاصم الإسرائيليون فيما بينهم وينهون وجودهم بسبب التفكك. هذا ما يجري هذه الأيام. انظر كيف يتفكك المجتمع الإسرائيلي ولا يوحدهم إلا تضخيم العدو الخارجي. حتى لو لم يكن موجودا تتم صناعة عدو وهمي، فالسلام الحقيقي سيؤدي إلى نهاية هذا الكيان المصطنع لذلك يهربون من السلام ويفضلون الصراع كي لا يعجلوا في نهايتهم.
المهندس ـ سجين محرر من أربعة أشهر: الوضع الآن يبدو أنه سوداوي تماما. ترى هذه الإضرابات المتواصلة ـ إضراب المحامين والمعلمين وموظفي الصحة والمهندسين. هناك أزمة سياسية حادة وأزمة مالية والأفق السياسي مغلق تماما. السلاح ينتشر في المخيمات. السلطة لا وجود لها في غزة ولا القدس ولا جنين. السلطة تضعف باستمرار والمعارضة غير مؤهلة. أخطر شيء أن يفقد المجتمع توازنه. سلطة تهبط ومعارضة لا تملأ الفراغ ولا تقوم بدورها ولا تشكل بديلا. نحن في حالة فوضى مثل الفوضى في الدول العربية مثل، مصر وليبيا والعراق ولبنان. لا سلطة قوية تضبط، ولا معارضة مسؤولة تملأ الفراغ. هناك فوضى سلاح في الضفة ـ سلاح غير منضبط وسلاح أجهزة وسلاح في أيدي أنصار دحلان. هناك كذلك فوضى في الوضع الاقتصادي غير المنظم وغير المنتج. هناك فوضى في النظام التعليمي والصحي. نحن نعيش حالة اضطراب داخلي. هذا ما أخشاه. لم يعد العدو قادرا على أن يكسرنا من الخارج لذلك يحاول أن يكسرنا من الداخل. اليأس الذي أحس به الآن ليس من قلة مقارعة الاحتلال، بل من انتقال النزاع والفوضى والتجاذب إلى الداخل الفلسطيني. أخطر ما يمكن أن نعيشه هو الشعور باليأس. هناك فرز داخلي مثل الدول العربية يوصلنا إلى حالة الفوضى فاليأس، نحن لا نعرف إلى أين نحن ذاهبون.
عضو سابق في بلدية رام الله – ضروري أن يتم انتزاع المبادرة من أيدي السلطة. سكوتنا على هذه الأحوال وهذه الفوضى العارمة سيمكن السلطة من الاستمرار في مسيرتها الفوضوية الكارثية. مسؤولية الناس أن تقف وتتصدى وتنتزع حقوقها وتأخذ المبادرة للخروج من حالة الفوضى والانقسام والتبعية. لا أحد في مأمن إن لم نكن كلنا في مأمن.
سيدة أعمال مغتربة ناشطة سابقة في أحد التنظيمات: بصراحة نحن الآن لسنا قادرين على هزيمة إسرائيل. إسرائيل ستهزم نفسها بنفسها. هذا مجتمع غير متجانس. ما الذي يجمع اليهودي الروسي اللاديني مع اليهودي اليمني المحافظ؟ هل هناك شيء مشترك بين ثقافتيهما؟ أضف اليهما هذه التجمعات المقبلة من كل بلد تحمل سمات البلاد التي جاءت منها. لو نستطيع أن نعمل على تعميق هذه الشروخ والخلافات والنزاعات، والتمييز بين المجموعات المختلفة، ربما نساهم في تسريع انهيار هذا الكيان المصطنع الذي لا يعيش إلا على الحرب والقتل والتمييز.
مهندس جيولوجي يعيش في الولايات المتحدة: الوضع، كما أراه، سوداوي، تخيلوا أن الكابينت (مجلس الوزراء) الإسرائيلي يعمل ليل نهار على قضية التوريث، بعد أبو مازن، مثلما حدث من قبل عندما كانت أمريكا وإسرائيل تعدان المسرح لتولي أبو مازن بعد الإطاحة بياسر عرفات. الآن المشهد يتكرر. لا توجد الآن قيادة للمعارضة أو المقاومة. نحن الآن نعيش حالة من التمزق والانشقاق. البداية تكون من العمل على إيجاد قيادة لثورة شعبية، لا أرى أن هناك جسما واحدا للمقاومة. هناك تجمعات، واحد في نابلس وآخر في جنين وثالث في غزة. لا تنسيق بينها ولا وحدة ميدانية. أنا فقدت الأمل في الفصائل، وأراهن على ثورة شعبية تنطلق من الناس المتضررين. أشعر بشيء من اليأس الآن بانتظار الثورة الشعبية وقياداتها الميدانية التي تتجاوز السلطة والفصائل وتغير الوضع الحالي.
وزير سابق: كما أننا في مأزق، الإسرائيليون في مأزق. يرفعون شعارات متطرفة كما رفعها اليساريون عندنا: إما نحن أو هم. حرب وجود لا حرب حدود. هذه شعاراتهم هم الآن. رفضوا كل الحلول الوسطية. رفضوا أي حل يقوم على وقف الاستيلاء على الأرض وبناء المستوطنات. يريدون كل الأرض دون شعب وهذا أمر مستحيل. لقد أخطأوا في رفض المساومات والتنازلات الكبرى التي قدمها الفلسطينيون، لأنهم فعلا لا يريدون السلام، وسيدفعون في المحصلة الثمن. نحن الآن متعادلون في حجم السكان في كل فلسطين. ومن حولنا الأمة العربية كلها، حتى لو على رأسها حكام مطبعون ومتهالكون، إلا أن جسم الأمة ما زال سليما. الشعوب العربية لا يمكن أن تتخلى عنا وعن قضية فلسطين لأنها قضية الشعوب لا قضية الحكام. الأمل موجود وعلينا ألا نيأس.
المهندس: أذكركم بما حدث في معركة بوابات الأقصى وكيف وقفت الجماهير المقدسية ومن ورائها الجماهير الفلسطينية، وكيف انتصرت الإرادة بالصمود والصبر وعدم تقديم التنازلات. الأمل موجود والطريق إلى تحقيقه معروف فصمودنا يؤدي إلى انتقال الخلافات بينهم واتساعها. علينا ألا نيأس ونواصل الصمود لتنتقل الخلافات إلى صفوفهم، التي نرى بوادرها الآن. علينا ألا نقدم أي تنازلات، بل نعزز صمودنا وننتصر في معاركنا اليومية الصغيرة والكبيرة، وصولا إلى المقاومة الشعبية الشاملة.
الأستاذ: تنتصر حركات التحرر بتوفر شروط ثلاثة: وحدة داخلية متينة، وقيادة واعية ملتزمة، وبرنامج نضالي متفق عليه يحدد الهدف وطرق تحقيقه. كل هذه الشروط غير متوفرة الآن، خاصة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو الكارثية وتحول منظمة التحرير الفلسطينية إلى سلطة تعمل بشروط العدو وتحت إشرافه، وتعمل على إنجاز مهمات مطلوبة منها، لا تملك حق الرفض أو القدرة على الرفض. أضف إلى ذلك وضعا عربيا متهالكا، يركض نحو التطبيع مع العدو الصهيوني، بل التحالف معه. وهناك وضع دولي غير مهتم بالقضية الفلسطينية، منشغل بحرب أوكرانيا وأزمة الغذاء والطاقة. رغم هذه الصورة المأساوية إلا أن شعبنا في معركة «سيف القدس» (مايو 2021) أثبت أنه شعب عظيم وقادر على العطاء. لقد تجاوز السلطة والفصائل والعقبات وانتفض موحدا في كل مكان، ما أرسل رسائل لا لبس فيها، أن سنوات الاحتلال ونظام الأبرتهايد والحصار والقمع لم تقتل روح المقاومة في فلسطين التاريخية، خاصة في الأجيال الشابة. لقد أثبتت تلك الأحداث أن الشعب الفلسطيني واحد وأرضه واحدة لا تنقسم إلا على واحد، وأن نضاله متعدد الأشكال ويكمل بعضه بعضا. الأمل معقود على هذا الجيل. على الطلائع المثقفة والواعية والمعنية أن تفكر بشكل مبدع وخلاق لاستعادة منظمة التحرير الفلسطينية، وإعادة بنائها على أساس ميثاقها الأصلي القائم على وحدة الأرض والشعب وبرنامج المقاومة. لا بديل أمامنا إلا الصمود والمقاومة على أرضية هذا البرنامج.
- عن القدس العربي