حروب النبوءة: إسرائيل بين الرمز والدماء
السبت 4/10/2025- سامية عيسى
لم تكن الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين مجرد عمليات عسكرية، بل كانت منذ عام 1948 وحتى اليوم جزءًا من مشروع استيطاني يرتكز على سردية دينية توراتية.
لقد استخدمت قيادات جيش الاحتلال الإسرائيلي تسميات مستوحاة من العهد القديم، ليس فقط لمنح العمليات طابعاً بطولياً، بل لربط العنف بالوعد الإلهي، وتحويل الصراع السياسي على الأرض إلى حرب مقدّسة للتغطية على الجوهر الاستعماري الاستيطاني الصهيوني للدولة الفتية. هذه الرمزية الدينية، التي بلغت ذروتها في عملية «عربات جدعون» الأخيرة على قطاع غزة، هي انعكاس لتحوّل إسرائيل إلى دولة فاشية تستمد شرعيتها من كتلة ناخبة دينية متطرفة.
جذور الحرب المقدّسة: من النكبة إلى التطهير العرقي
منذ عام 1948، استندت الحركة الصهيونية إلى سردية توراتية لتبرير احتلالها للأرض وتطهيرها عرقياً من سكانها الأصليين. فقد تمّت عمليات تهجير الفلسطينيين تحت مسميات عسكرية، لكن الخطاب السياسي الذي رافقها كان يتقاطع مع النصوص الدينية التي تَعِد اليهود بـ «أرض الميعاد». إنّ هذا الخطاب، الذي رسّخ فكرة العودة إلى «أرض الأجداد»(إسرائيل)، جعل من إزاحة السكان الأصليين خطوة ضرورية لتحقيق النبوءة – وهي الإيمان بأن سيطرة اليهود على الأرض هي تنفيذ لوعد إلهي أزلي ورد في التوراة – وليس عملاً عسكرياً عدوانياً. وتعتبر سردية أرض الميعاد وشعب الله المختار خرافة توراتية استندت عليها الحركة الصهيونية منذ مؤسسها تيودور هرتزل لشد عصب القبيلة اليهودية استنادا لخرافات دينية مع أنّه هو نفسه كان يساريا ملحدا، على غرار المؤسسين الأوائل لدولة إسرائيل، وهو ما يخلق مفارقة هائلة لا بد أن تلقي ظلالها على استمرارية المستعمرة الصهيونية وستساهم – ضمن عوامل أخرى – في تفكيكها، وهو ما بدت تباشيره تظهر بعد الاحتجاجات العارمة التي شلّت إسرائيل قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، إثر الانقلاب القضائي من حكومة بنيامين نتنياهو على المحكمة العليا، وهددت ديمقراطية الدولة نفسها، بسبب حالة الفصام بين علمانية الدولة وخرافاتها الدينية المؤسِّسة لوجودها.
نمط متكرر: حروب بأسماء توراتية
إنّ استخدام الرموز التوراتية ليس مقتصراً على «عربات جدعون»- وهو الرمز الذي استُخدم في إحدى العمليات العسكرية الكبرى عام ١٩٤٨ أيضا . فمنذ عام 2002، اعتمد جيش الاحتلال الإسرائيلي نمطاً متكرراً في إطلاق أسماء توراتية أو دينية على عملياته العسكرية، لإضفاء شرعية مطلقة عليها تبيح له – باعتقاده – الفتك بالشعب الفلسطيني :
عملية «السور الواقي» (2002) في الضفة الغربية: يحمل هذا الاسم دلالة دينية قوية، فكلمة «الدرع» أو «السور» في العهد القديم هي رمز للحماية الإلهية، كما ورد في المزامير (18:2): «الرَّبُّ صَخْرَتِي وَحِصْنِي وَمُنْقِذِي. إِلَهِي صَخْرَتِي بِهِ أَحْتَمِي. تُرْسِي وَقَرْنُ خَلاَصِي وَمَلْجَئي». هذا الاسم يجعل من الاعتداء عملاً دفاعياً مقدّساً.
عملية «الرصاص المصبوب» (2008-2009): يشير هذا الاسم إلى نص من سفر الخروج (15:10) يصف مصير الأعداء: «صَبَبْتَ رِيحَكَ فَغَطَّاهُمُ الْبَحْرُ. غَاصُوا كَالرَّصَاصِ فِي مِيَاهٍ غَامِرَةٍ». الاسم يهدف إلى تصوير الحرب كفعل إلهي حاسم يسحق العدو من دون رحمة أو شفقة.
عملية «الجرف الصامد» (2014): الاسم يوحي بالثبات والعزم المطلق في وجه الخطر، وهو ما يتماهى مع السرديات التوراتية التي تصف صمود بني إسرائيل.
«عربات جدعون»: يُعدّ استخدام هذا الاسم في العملية الأخيرة على غزة مثالاً صارخاً على هذا النهج. جدعون، هو شخصية من سفر القضاة (7:2)، اشتهر بكونه محارباً اختاره الرب لقيادة جيش صغير لهزيمة جيش المديانيين الجرار. باختيار هذا الاسم، يهدف الجيش الإسرائيلي إلى إضفاء شرعية دينية على عملياته، وتقديمها على أنّها معركة بطولية يباركها الرب. فقد كان المديانيون قبائل رحّالة اعتبرهم العهد القديم أعداءً للإسرائيليين يهددون وجودهم، وقد قاد جدعون معركة ضدهم في سبيل تخليص شعبه.
فاشية دينية ورصيد من الدماء
يرتبط استخدام هذه الرموز – بشكل مفرط مؤخرا – ارتباطاً وثيقاً بالتحوّل السياسي والاجتماعي داخل إسرائيل. فاليمين المتطرف والمستوطنون، الذين يشكلون كتلة ناخبة صلبة، يرون في الحرب على غزة تحقيقاً لوعد إلهي، وليس صراعاً سياسياً. وقد أظهرت استطلاعات الرأي العام المتكررة في إسرائيل دعماً واسعاً لاستمرار الحرب – رغم تراجع هذا الدعم قليلا- حتى لو كان ذلك على حساب حياة الرهائن أو الجنود، ما يؤكد أنّ هذه الكتلة لا تعبأ بالثمن البشري للحرب بقدر ما تهتم بتحقيق «النصر الكامل» الذي تراه مقدّساً.
هذه النزعة الدينية المتطرفة لا تُعير اهتماماً للقانون الدولي، أو لاتفاقية منع الإبادة الجماعية التي صدرت في أعقاب جرائم الهولوكوست، والتي كان من المفترض أن تكون إسرائيل أول من يلتزم بها. لقد تحولت المأساة التي تعرض لها اليهود في أوروبا إلى أداة تُستخدم لتبرير مأساة جديدة تُرتكب بحق شعب آخر – في قارة أخرى – لا علاقة لهم بما حدث لليهود على يد النازية الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وبعد مرور ثلاث سنوات (1948) على انتهاء هذه الحرب. وهذه مفارقة أخرى بحد ذاتها ، تُحسب على إسرائيل والحركة الصهيونية المؤسِّسة لها كمفارقة أخلاقية مروّعة.
إدانة من قلب الذاكرة
لم يغب هذا التحول عن عيون بعض المفكرين اليهود الذين نجوا من المحرقة. فقد كانت الفيلسوفة حنة آرندت، التي شهدت فظائع النازية، من أشد منتقدي المشروع الصهيوني.
لقد حذرت في كتاباتها من مخاطر تحوّل إسرائيل إلى دولة قومية متطرفة، وعبّرت عن مخاوفها من أن يؤدي ذلك إلى صراعات لا تنتهي.
إن موقف آرندت وغيرها من المفكرين اليهود الذين أدانوا سياسات إسرائيل الإجرامية بحق الفلسطينيين – أمثال نعوم تشومسكي ،ونورمان فينكلشتاين – يُظهر أن العنف الإسرائيلي ليس له مبرر في الذاكرة اليهودية الإنسانية، التي قامت على رفض الاضطهاد والعمل من أجل العدالة.
العنف باسم النبوءة
إن استخدام الرموز التوراتية في الحروب الإسرائيلية ليس مجرد تسمية عسكرية، بل هو فعل سياسي وديني يهدف إلى نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، وإضفاء شرعية مطلقة على ممارسة العنف ضدهم. فبتحويل الفلسطينيين إلى «مديانيين» من الماضي ، وتسمية الشعب الفلسطيني بـ»المعاليق» كأحد التسميات التوراتية ، يمكن تبرير أي فعل بحقهم، وجعل الحرب ضدهم «مقدّسة»، يمكن التغاضي فيها عن أي انتهاك للقانون الدولي. إنّ هذه الممارسات هي التي تكشف عن جوهر الأيديولوجية الفاشية التي تُحرّك بعض قادة إسرائيل وناخبيها اليوم، والتي تُنذر بمستقبل أكثر دموية.
- عن القدس العربي