خطة ترامب في غزة: الترويض بدلاً من التفكيك
الجمعة 31/10/2025- سامية عيسى
لم تكن خطة التسوية التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لقطاع غزة مجرد مخطط عسكري – إنساني كما حاول تصويرها، بل كانت ورشة هندسة سياسية واجتماعية، على غرار ما يفضله رجال الأعمال الأمريكيون. في جوهرها، تكرس هذه الخطة، التي تتراكم الأسئلة بشأن مستقبلها القريب والبعيد، صيغة واقعية للتعامل مع «اليوم التالي»، تقوم على مبدأ «لا غالب ولا مغلوب» في الصراع، خاصة في ما يتعلق بوجود حركة حماس. هذه الصيغة تتجاوز الطموح الإسرائيلي المعلن بإبادة الحركة، وتتبنى نهجاً براغماتياً يفضل ترويض القوة المتبقية من حماس على القضاء عليها، وهو ما يفرض على النخبة الفلسطينية التفكير خارج الصندوق، وانتزاع زمام المبادرة من الجميع قبل فوات الأوان.
صدمة «الشرعية المؤقتة» وتفكيك وهم تدمير حماس
إن التطور الأكثر إثارة للجدل في «المرحلة الانتقالية» لخطة ترامب هو سماحه الرسمي والمؤقت لحركة حماس بالعمل كقوة «أمن داخلي» لضبط الفوضى في القطاع، لحين تأسيس إدارة دولية متعددة الجنسيات. هذا التصريح، الذي جاء على لسان ترامب نفسه خلال لقائه برئيس الأرجنتين، ثم تأكد في أحاديثه مع الصحافيين على متن طائرته، يمثل نقطة تحول مفصلية، تمنح الحركة أكثر من مجرد شرعية؛ بل يجعلها فعلياً جزءاً لا يتجزأ من إدارة غزة. وقد برر ترامب هذا القرار بضرورة تأمين الوضع في القطاع، حيث سيعود مئات الآلاف من الغزيين إلى منازلهم المدمرة، والخوف من حدوث «الكثير من الأمور السيئة». هذا الموقف الرئاسي ينسف الوهم الذي باعته القيادة الإسرائيلية لمواطنيها، وهو وهم «تدمير حماس». فخطة ترامب لا تشترط تفكيك حركة حماس كتنظيم، بل تترك لها الباب مفتوحاً لتتحول إلى حركة سياسية غير مسلحة، وهو ما يتطابق مع اتفاقات سابقة (مثل الاتفاق الذي لم يطالب بتفكيك حزب الله كتنظيم في لبنان). ترامب، الذي أظهر استعداداً لعقد اتفاقات مع طالبان، وشرّع ميليشيات أحمد الشرع في سوريا، مستعد للنظر إلى حماس كتنظيم مقبول، إذا تخلت عن سلاحها، وهو ما يتطلب منها أن تجتاز سلسلة اختبارات يفرضها عليها المندوب السامي الأمريكي، وفق الخطة.
نهج الترويض والحلول الإقليمية: التعلّم من الفشل
إن تبني نموذج «ترويض القوة» بدلاً من القضاء عليها، يعكس درساً مستخلصاً من تجارب إقليمية سابقة، أثبتت أن الحلول العسكرية المطلقة غير واقعية. ففي لبنان، لا يزال حزب الله يحتفظ بأسلحته ودوره في الحكومة والبرلمان، رغم محاولات الجيش اللبناني لجمع السلاح جنوب نهر الليطاني. أما في سوريا، فعلى الرغم من تعهد نظام أحمد الشرع بتفكيك الميليشيات، فإن دمج القوات الكردية والدرزية وباقي الميليشيات المسلحة ما زال يواجه تحديات معقدة. فيما لا تزال الميليشيات الشيعية في العراق، تحت لواء «الحشد الشعبي»، تحتفظ بهامش كبير من الاستقلالية والولاء لإيران، على الرغم من المفاوضات المستمرة لدمجها في الجيش الوطني. في هذه الدول، تشكل الميليشيات جزءاً «شرعياً ومتكاملاً من المجتمع والسياسة المحلية». والفارق الوحيد مع غزة هو غياب الحكومة ذات السيادة، التي يمكن للولايات المتحدة التفاوض معها، وممارسة الضغط عليها. ولذلك، فإنّ خطة ترامب تراهن على خلق سلطة إقليمية – دولية يمكن أن تمارس هذا الضغط، خاصة مع إشراك أكثر من طرف له تأثير كبير على حماس، كتركيا وقطر.
الأيادي الدولية والإقليمية: مصر شريك رئيسي
تحتاج خطة ترامب إلى قوة استقرار دولية، التي كان من المفترض أن تنتشر فوراً في غزة، لكنها لم تُشكّل بعد، في ظل هذا الفراغ، يبرز الدور المصري – الأردني كعنصر حاسم، حيث يُتوقع أن تقود مصر قوة الاستقرار، وهي تعمل على تدريب آلاف رجال الشرطة الفلسطينيين بالتعاون مع الأردن. هذا التخصيص لدور مركزي لمصر يعود لقربها الجغرافي وقدراتها العسكرية، كما يتوقع أن ترسل أذربيجان وإندونيسيا أيضا قوات إلى القطاع. الأمر الأكثر أهمية هو الدفع نحو إشراك السلطة الفلسطينية في تشغيل معبر رفح من الجانب الغزي، بمساعدة قوة EUBAM الأوروبية. هذه الدينامية، التي تجعل من قوة تابعة للسلطة القوة الفلسطينية الرسمية الأولى العاملة في القطاع بدعم دولي، لا تُعجب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي يحاول إفشال فتح المعبر لمعاقبة حماس، وإفشال دخول السلطة الفلسطينية، وإظهار معارضته للتدخل التركي، عبر منع دخول البعثة التركية للقطاع للمساعدة بالبحث عن جثامين الرهائن، وانتشالها من تحت الأنقاض. ولتأمين «دخول هادئ» للقوة الدولية، التي تعتبر الأساس الذي تستند إليه خطة ترامب، أوضحت واشنطن أن هدفها هو التقدم إلى المرحلة الثانية، وأكدت أنّ حماس لا تخرق الاتفاق. ولهذا، أصبح التفاوض المباشر بين واشنطن وحماس، الذي كان أثار ضجة عارمة في تل أبيب، أمراً «شبه عادي»، خاصة بعد أن التقى مبعوثا ترامب (ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر) رئيس وفد التفاوض في حماس خليل الحية.
الراديكالية المُتوقعة ورهان الاستقرار الأمني
إن الدافع الأمني الخفي خلف خطة ترامب – باعتقادي- هو محاولة تجنب إنشاء نطاق جغرافي عدائي بلا سيادة، يعرّض أمن إسرائيل للخطر. فالعودة العشوائية لمئات الآلاف من الغزيين، مرهقين وشغوفين بالهدوء، تقابلها رغبة كثيرين منهم متلهفون أيضاً «للانتقام». إنّ تدمير غزة وتحميل سكانها مشاعر الانتقام وصفة لكارثة أمنية، لم يكترث لها الإسرائيليون، وهم يقومون بحرب إبادة جماعية، من غير أن يعبأوا بما قد تنتجه هذه الإبادة الجماعية من أزمة أخلاقية في المجتمع الإسرائيلي، ستسهم بتفككه حين تضع الحرب أوزارها. هذا الخراب المروّع ينذر بنشوء ميليشيات مسلحة أكثر تطرفاً وراديكالية من حماس، وغير معنية بتفاهمات خليل الحية، لذا، يمثل الإبقاء على حماس كقوة أمن داخلي مؤقتة في كف ترامب، مع الضغط عليها لتسليم السلاح، محاولة براغماتية لترويض هذه القوة بدلاً من ترك الفراغ ليُملأ بمقاومة مسلحة أكثر تطرفاً، قد تقطع الطريق على أحلام ترامب العقارية المضمرة. كلها احتمالات منطقية لواقع مأزوم لا ضمانات فيه من الخروج عن السيطرة.
المبادرة الفلسطينية الضائعة للقطع مع الإملاءات
في خضم هذه اللعبة الدولية والإقليمية، يظل الطرف الفلسطيني الحقيقي معزولاً عن العملية، إذ لم يتم النظر حتى إلى البديل الوحيد الذي يملك فرصة، وهو دمج حماس في منظمة التحرير، لتأليف حكومة جديدة أكثر شرعية تتولى هي إدارة غزة، وتربط أوصالها مع الضفة الغربية، لتشكل نواة تفاوض على تشكيل دولة فلسطينية، مما يتطلب الإصرار على إطلاق سراح مروان البرغوثي الزعيم السياسي الأكثر شعبية في غزة، حسب استطلاعات الرأي الأخيرة، والقادر على قيادة عملية سياسية أكثر صدقية من أي قيادي آخر، وفي ظل تأييد عالمي عارم للقضية الفلسطينية. وهنا، يقع العبء على النخبة الفلسطينية (من تكنوقراط ومثقفين ومناضلين أوفياء) التي يجب أن تبادر إلى قطع الطريق على الجميع، ولا تنتظر أحداً يملي عليها شروطه. إنها مطالبة بتشكيل حكومة وطنية مؤقتة، تتجاوز حالة الانقسام، ترسم ملامح «اليوم التالي الفلسطيني» من دون انتظار موافقة واشنطن أو تل أبيب، وتعمل على استنهاض غزة من الخراب. ففي غياب هذه الحكومة، ستظل حماس هي القوة الوحيدة التي تستفرد بالعمل على الأرض، في ظل نقمة شعبية تلومها وتتعالى الأصوات بوجهها، قد لا تمكنها من ضبط الأمور حين تخرج هذه النقمة عن السيطرة. فالانتقادات الواسعة التي ستتعرض لها حين يسكت صوت المعركة، ويُدرَك حجم الثمن الباهظ الذي دفعه الغزيون والغزيات جراء معركة طوفان الأقصى غير محسوبة النتائج – التي استغلتها إسرائيل كذريعة لشن حرب الإبادة الجماعية – لن تمكنها من تولي القيادة بعد حرب دامية لم تنتصر فيها، وأعادت الشعب الفلسطيني عقودا إلى الوراء، إنّ واشنطن وتل أبيب تدركان هذا الوضع، وتستغلانه أسوأ استغلال.
- عن القدس العربي