سامية عيسى لشبابيك: مجتمع الابوات يتحكم بالسياسة الفلسطينية
الجمعة 16/02/2018بيروت – شبابيك ـ رشا حيدر
أثارت الروائية سامية عيسى زوابع من الجدل حول حدود محاولات كسر التابوهات بعد نشر روايتيها “حليب التين” و”خلسة في كوبنهاجن” كما استطاعت من خلال جرأتها توسيع هوامش النقاش حول المسكوت عنه في التجربة الفلسطينية، وتكريس هويتها الخاصة بها.
حول البصمة التي وضعتها في المشهد الروائي الفلسطيني وظروف ومناخات كتابة الروايتين حاور ” شبابيك” الروائية عيسى وكان هذا اللقاء الذي لا يقل جرأة عن عمليها الابداعيين:
* روايتك حليب التين علامة فارقة في الرواية الفلسطينية من حيث جرأة الطرح. نستطيع القول إنها ساهمت في تهشيم التابو السياسي في المشهد الروائي الفلسطيني. هل قصدت من خلالها الإشارة إلى دور الجنس في تحديد معالم السياسة؟
– الجنس في رواية “حليب التين” هو دلالة رمزية أساسية في الثقافة الذكورية، والمقصود منه الإشارة إلى أحد أهم معوقات التطور في المجتمعات. ذكورية المجتمع الفلسطيني لا تختلف عن ذكورية أي مجتمع عربي بل كافة المجتمعات وسيطرة جنس على آخر والتحكم به. تبقى الفروقات في نسبية التسلط الذكوري في تهميش الانسان لاسيما المرأة. تخيلي حجم الإنجازات التي حققتها النساء لجهة التعليم والعمل والإستقلال الإقتصادي في العالم، مع ذلك لم تتمكن المرأة من التأثير الجذري في النظرة إلى العالم أو الكف عن الحط من شأن النساء في القرارات المصيرية، وكأن تجربتهن النضالية وتضحياتهن الهائلة التي قدمنها على درب تحرير فلسطين لا يؤخذ بها على محمل الجد حين تؤخذ القرارات المصيرية.
الذي يتحكم بالسياسة الفلسطينية هم الذكور أو بكلام أوضح “مجتمع الأبوات السياسي” الذي سيطر وما يزال يسيطرعلى تحديد معالم السياسة الفلسطينية بكل فصائلها ونخبها الاكاديمية والثقافية والاجتماعية. وأجرؤ على القول هنا أننا لو تفحصنا جيدا أسباب التعثر في تخلف الخطاب الفلسطيني التحرري سنجد الكثير من القيم الذكورية مهيمنة بشكل عميق في الخطاب السياسي الوطني كما في النتاج الأدبي وأيضا في السلوك اليومي للمثقفين والمثقفات من شعراء وروائيين ونخب أكاديمية من الذكور والإناث، حتى عند الذين يناصرون قضية تحرير المرأة، وأيضا ممن يعتنقون خيار الإسلام السياسي في النظر إلى المرأة من منطلق ديني فقهي يقيد جسد المرأة ويتحول الى الشغل الشاغل في الفتاوى.
أجرؤ على القول أن الذكور بغالبيتهم يعانون من ازدواج معايير في الشخصية في ما يقولونه ويفعلونه، وهذا الإزدواج العميق مؤلم وخطورته ليست فقط على المرأة بل أيضا على الرجل لأنه يسكن في اللاوعي وليس فقط في الوعي، تكدس عبر التاريخ ويسبب الكثير من العذابات في العلاقات الفردية الأسرية والاجتماعية ويعيق أية رؤية جديدة لإخراج الشعب الفلسطيني من المتاهة التي يغرق فيها.
القصد من استخدام دلالة الجنس ليس فقط تهميش التابو السياسي الذي يلعب الجنس فيه دورا حيويا، بل فتح الأعين على عمق الأزمة الوجودية التي تعانيها المرأة وهي نصف المجتمع. تشكل قضية المرأة في كل المجتمعات متلازمة التحرر والتغيير لكن للأسف ما يزال ينظر للمرأة كمفردة جنسية يجب ضبطها أو تقييدها أو التمتع بها واستغلالها في سبيل تحقيق السيطرة عليها ما يضمن السيطرة على نصف المجتمع.
كان ذلك في المجتمع الإقطاعي البطريركي واستمر مع النظام الرأسمالي وما نجم عنه من إمبرياليات. لكن القبول بالتهميش لم يعد كذلك بالنسبة للكثير من النساء رغم تبني الغالبية منهن لقيم الثقافة الذكورية السائدة في المجتمع التي يصعب الفكاك منها، كما الرجال، كجزء من منظومة القيم المحركة للمجتمعات وبسبب حالة التخلف واللاوعي بالذات. اليوم صار لدى النساء تطلعات للخروج من القمقم والمسألة مسألة وقت. أية رؤية جديدة لتحرير الأرض وتحقيق العودة وإحداث التغيير لا تفك قيد الجسد مآلها الفشل. وأية رؤية لا تأخذ بالحسبان قضية المرأة كمعيار أساسي في التغيير سوف تعيد إنتاج السياسة ذاتها والخطاب الذكوري السياسي ذاته. ومع أن المرأة الفلسطينية قامت بالكثير وبنضالات وتضحيات هائلة لا نجده يتجسد في الوعي السياسي والاجتماعي بل تدفع أثمانا باهظة ـ كما حصل مع فاطمة وصديقة في الروايتين ـ وتترك لمصير مجهول يمتهنها فقرا وجسدا حتى لو كانت زوجة شهيد أو أم شهداء، وهذا له بعد غير أخلاقي في الممارسة السياسية والنضالية للفلسطينيين، وهو احد اسباب انعدام الثقة بالقيادات والفصائل الفلسطينية.
- كيف قوبل هذا الطرح في مجتمع الفصائل السياسية ؟
ـ أفهم أن يسيء كل من فتح وحماس فهم المغزى النقدي للواقع الفلسطيني خاصة أن “حليب التين” تتناول فترة من التاريخ الفلسطيني كان لحركة فتح الحصة الأكبر من التأثير في هذه التجربة. مثلا كان يحرص موقع قوات العاصفة على وضع المراجعات النقدية السلبية ل”حليب التين” بينما قامت حركة حماس بوضعها في مكتبة الجامعة الإسلامية رغم تعارض المشاهد الجنسية مع خطابها الإسلامي. كان الأمر مضحكا بالنسبة لي. كنت أتوقع ردة فعل أكثر حدة، لكن ذلك لم يحصل . لماذا؟ لأنني أعتقد أن “حليب التين” لامست الواقع بشكل لا يمكن إنكاره أو لامست الوجدان الفلسطيني في التعاطف مع الشخصيات الروائية لا سيما أم الشهداء فاطمة. ردة الفعل كانت عنيفة عند بعض القراء. بعضهم لم تعجبه النهاية وقال لي أحدهم ذات مرة إنه كان علي أن أنهي الرواية بموت “صديقة” كونها مذنبة تستحق العقاب بالموت. هي ردة فعل من اعتاد أن ينظر للمرأة ويحاكمها بناء على ما تفعل بجسدها بسبب وعي زائف بمفهوم الشرف. فالشرف متعلق بقدسية الجسد الأنثوي كونه ملك للرجل يجب ألا يتم التفريط به لكن السؤال هو: من فرط بصديقة أصلا؟ إنه أزدواجية المعايير في “مجتمع الأبوات” الذي تركها وحيدة بل حاول امتهان جسدها عبر المسؤول التنظيمي نفسه. في “حليب التين” رميت شخصية “صديقة” بوجه الجميع. لأنها كانت بمثابة المرآة نتفحص فيها تجربتنا الفلسطينية على مدى عقود وعقود. تخيلي ان أحد الكوادر النضالية “التقيته في معرض بيروت الدولي منذ سنتين” كان مستاء لأني أقحمت شخصية أم شهيد وزوجة شهيد في مشاهد جنسية إباحية في رواية “حليب التين” بينما أعجبته رواية “خلسة في كوبنهاجن”. هذا قائد كتيبة كنت أنتمي نضاليا لخطها السياسي، وكنت لا أتورع عن أن أفديه بحياتي.
أسعدني وأغضبني استياءه في آن معا. قلت له يومها كردة فعل أولية: ان أحد غايات هذه الرواية هي إزعاجك أنت ومن هم في مواقع القرار. ما أزال أذكر كيف تم التفريط من قبل هؤلاء المناضلين بقضية المرأة لصالح ما سمي أولوية القضية الوطنية على القضايا الأخرى. وهم من مشارب ماركسية وشيوعية بمعظمهم.
صار الواحد منهم ينتظر من زوجته أن تحضر له كأس الماء على سبيل المثال ولا يشارك في الأعمال المنزلية أو الاهتمام بالأطفال كونها من مهام المرأة ولا يشركونها بالقرارات التنظيمية. لم نتقدم قيد أنملة داخل أسرنا في تقديم نموذج جديد لشكل العلاقات الاسرية، وتحت مقولة احترام تقاليد الجماهير تم تهميش قضية المرأة داخل صفوفنا.
تأجيل رفع العذابات التي يسببها قهر المرأة والتي ساهمت وما تزال تساهم في تفكك الأسر وتشتت العائلات وتؤلم الرجال وليس النساء فقط يساهم في إدامة هذه العذابات. نريد العدل؟ فليكن العدل للجميع وعلى كل المستويات. وعلى الرجل تقع مسؤولية كبيرة بهذا الشأن لأنه هو من في السلطة ويتمتع بامتيازات الثقافة الذكورية وعليه أن يتخلى طوعا عنها تحقيقا للعدل وللفطرة الطبيعية. نحن نولد أحرارا بالأساس. الحط من شأن النساء لن يفيد أصلا سوى الاحتلال بينما تحرير فلسطين هو تحرير الإنسان أولا كي نتمكن من تحرير الأرض وتحقيق العودة. هذه النظرة الذكورية ساهمت باعتقادي في تقويض تجربة شبابية ونضالية رائدة (أعني هنا تجربة الكتيبة الطلابية ومن دار في فلكها في منتصف السبعينات من فلسطينيين وفلسطينيات ولبنانيين ولبنانيات وأيضا من أقطار عربية عدة) والتي شكلت باعتقادي في وقت من الاوقات تيارا نضاليا متميزا داخل حركة فتح، ولكن هذه الازدواجية الناجمة عن ثقافة ذكورية متأصلة في وعي هؤلاء المناضلين والمناضلات رغم توجههم الماركسي والماوي كانت برأيي أحد أسباب تقويض هذه التجربة، لا سيما حين أطلت الثورة الايرانية بأدبياتها وتم تبني الاسلام كبديل إيديولوجي من قبل هؤلاء بتأثير هذه الثورة. حينها سقط القناع عن الكثير من هؤلاء الكوادر والكادرات وتم التفريط بهذه التجربة الرائدة التي كان يمكن لها أن تتطور وتحمي النضال الفلسطيني أقله من السقوط في اتفاقيات أوسلو والتخلي عن أهالي المخيمات قلب القضية ووجدانها الذين من أجلهم قامت الثورة.
- افهم من ذلك ان للجنس دور في تحديد معالم السياسة ..
ـ نعم له دور فاعل في تحديد معالم السياسة والحياة عموما وهو قيمة معيارية. ليس في الحياة الفلسطينية بل في حياة البشرية جمعاء، ولطالما كان الامر كذلك، الجنس كغريزة إنسانية ومحرك حيوي هائل في المجتمع “تم تشويهه” ولم يعط حقه كقيمة معيارية أساسية وما يعنيه ذلك من تشابك بنيوي مع قضية تحرير المرأة كون المستهدف من قهرها هو الجسد كأداة لهذه الغريزة.. وعليه هنالك حاجة لتحسين الذائقة الجنسية من منطلق جمالي بحت بعيدا عن التشوهات التي لحقت به بسبب نظرة ذكورية مريضة. عوضا عن امتلاك جسد المرأة عبر تقييده أو استغلاله، لنطلق العنان لأنفسنا أن نسمو بهذا الجسد بالحب وليس بالحرب وليس بالإجبار والطاعة لسلطة الرجل داخل العلاقة. وفي المحصلة إذا تعمقنا جيدا في المسألة وتداعيات الثقافة الذكورية التي هي منتج عالمي فإن قهر جسد المرأة هو سلوك كولونيالي استبدادي نمطي يقصد منه قهر المجتمع بأسره والسيطرة عليه وامتلاكه. السيطرة على الجسد “الملكية” التي لا تقل ثمنا عن الارض والذي كان ولا يزال من غنائم الحروب. الجسد الذي يمارس الجنس عليه قسرا في الغرف المقفلة والزنازين وفي التخييل وباسم اليسار واليمين على حد سواء. وسأجازف بالقول أننا لو أجرينا تحليلا طبيا ونفسيا لمعظم الحكام العرب بل والزعامات السياسية والدينية بما فيها الفلسطينية، سنجد الجنس في صميم اهتمامهم الواعي: إما أن لديهم هوسا بالجنس أو يعانون عجزا جنسيا أو ضعفا أو كبتا يفرغونه على شكل قرارات استبدادية تفردية (طبعا هذه فرضية تحتاج لدراسات علمية معمقة). هذا يؤثر على عقولهم وعلى أهليتهم لدى اتخاذ القرارات المصيرية. أحيانا أفكر هكذا. إنهم يضعوننا في مهب الريح. ونحن النساء ندفع ثمن هذه القرارات من حريتنا وحياتنا. إن الامتيازات التي تمنحها الثقافة الذكورية للرجال يقابلها مسؤوليات تقديم الحماية للنساء. هل هذا يحصل؟ بالطبع لا. يمارسون امتيازاتهم علينا لكنهم عاجزون عن حمايتنا. أضاعوا فلسطين. هل تريدين أكثر من ذلك. طبعا يبدو كلامي قاسيا أو تحريضيا لكني في الحقيقة أسمي الأشياء بأسمائها وأقول الحقائق لا أكثر، وبالتالي كما يقولون سقطت حقوقهم المفترضة عنا نحن النساء. سقطت حقوقهم علينا أكانوا حكاما ورجال دين وزعماء أحزاب وآباء وإخوة وأزواج وأبناء، لأنهم نقضوا المعادلة أو العقد أساسا. وعليه ليس على النساء أي حرج خاصة أولئك اللواتي يدافعن عن الثقافة الذكورية ويمتثلن لقيمها. نحتاج لصحوة نسائية عربية وليس فلسطينية فقط لترابط المسار والمصير وليكف الرجال عن اتخاذ القرارات التي ندفع نحن النساء والأجيال القادمة نتائجها الوخيمة. مستقبل التغيير وليس تحرير فلسطين مرتبط بقضية المرأة وعلى الجميع أن يأخذ هذا بالاعتبار عند وضع الرؤى وخطط التغيير وكتابة الدساتير ومناهج التعليم…إلخ.
- لاي حد تعتقدين بانك نجحت في تعرية المجتمع الذكوري ؟
ـ أعتقد أنني نجحت بشكل كبير لا سيما أنني قصدت التعرية بهدف تأريخ المعاناة الفلسطينية بوصفها منتجا فلسطينيا نحن صنعناه بأيدينا مع أنه كان هنالك فرصا كثيرة ألا نفعل، وفضلنا الجلوس في موقع الضحية والمفعول به تعويضا عن إحساس عميق بالذنب بسبب تقصيرنا وعدم أخذ النضال في القضايا المتوازية على محمل الجد. سيما أن جزءا كبيرا من المناضلين وبعض القادة كانوا متأثرين بالفكر اليساري الليبرالي كالفكر الشيوعي والتجربة الماوية، كان يتم تأجيل النقاش دائما أو الالتفاف عليه سواء عن المرأة أو الفساد المالي والسياسي. كنا وما نزال مهزومين من الداخل. أنا كنت أدعو لاحترام تقاليد الجماهير وعدم استفزازها بموضوع تحرر المرأة وذلك أثناء تجربتي في العمل النضالي منذ السبعينات. لكن أسيء فهمي وصار لزاما علي والاخوات أن نتواطأ على أنفسنا داخل بيوتنا ونعيد إنتاج العلاقات الزوجية التقليدية. تخيلي كنا شيوعيين ونؤمن بفكر ماركس والتجربة الماوية وحين انتقل النقاش إلى تبني الخيار السياسي الاسلامي طلب منا أن نرتدي الحجاب وقيل لي بالحرف حينها أنت محتشمة ولا تحتاجين إلا إلى متر مربع من القماش لغطاء الرأس. حينها فهمت إن مقولة احترام تقاليد الجماهير أدت إلى ما هو أبعد عن الاحترام وأجهضت ما تفتحت عيناي عليه لأنها وضعت في سياق بنيوي وليس تكتيكي.
انفصلت عن هذه المجموعة المتأسملة بتأثير الثورة الاسلامية في إيران وقلت إن هذا الطريق الذي تسيرون عليه لا يؤدي إلى فلسطين. اتهمت بالجبن حينها لانني رفضت الاستمرار في هذا العبث والصمت حيال الفساد الذي ساد أوساط فتح وكل الفصائل في ذلك الحين.
ربما نجحت في رواية “حليب التين” في احداث الصدمة عبر كسرعدة تابوهات منها استخدامي للجنس كدلالة رمزية في هذه التعرية باعتبار أن هذا تابو لا يمكن المساس به. الجميع عمل على تحطيمنا وليس إسرائيل فحسب لكننا كنا الاكثر تحطيما لأنفسنا لأننا قبلنا بسلطة “الابوات” الذكورية وما نزال وإن تعددت الايديولوجيات التي حكمت مسيرة النضال الفلسطيني بل وحتى العربي.
“حليب التين” حاولت أن تسائل الانا الفلسطينية الجمعية قادة وشعبا، نساء ورجالا في تخييل وبنية روائية ومستوى فني يمكن له الوصول إلى الروح الفلسطينية الكبرى.
- في روايتيك “حليب التين” و”خلسة في كوبنهاجن” خروج عن التعاطي النمطي مع نساء المخيمات، ظهرن اكثر انسنة، حررتيهن من الشعاراتية التي كانت تطغى على الادب حين يتطرق للنساء في حقب ماضية، هل كان ذلك بسبب الوعي او استعداد المجتمع لقبول مثل هذا التعامل ؟
ـ في شخصية “فاطمة” هناك قدر كبير من السذاجة النسوية إزاء الجسد المغيب الذي يتم انتهاكه عبر تغييبه في الحياة اليومية لنساء المخيم مقابل قدر هائل من التضحيات التي تبذلها النساء كمناضلات أو أمهات شهداء ومعتقلين أو زوجات الشهداء اللواتي يفقدن الحيلة على مواجهة الحياة، ولاشيء يمنع من بيع أجسادهن كما فعلت “صديقة” في دبي مثلا كحيلة نمطية تلجأ إليها النساء للتغلب على مصاعب الحياة.
أنا لم أكن أعرف أمهات شهداء فعلن ذلك أو حتى زوجات شهداء ومعتقلين لكن بعد نشر روايتي “حليب التين” و”خلسة في كوبنهاجن” بدأت بعض النساء بإخباري بوجود هذا الواقع فعلا والبعض اعتقد أنني أكتب عن شخصيات حقيقية تحدثن لي. أنا لم أفعل لكن المعاناة الشديدة التي واجهت النساء الفلسطينيات تحديدا كان يمكن أن تفرز هكذا شخصيات في الواقع، وتبين بل أنا متأكدة أنني كنت على حق.
التعاطي النمطي الذكوري مع الشخصيات النسائية تجدينه بسهولة في الشعر والرواية الفلسطينية كما العربية. قضية المرأة إنسانية بنيوية عابرة للقارات وكنت أهدف وأهدف بالفعل من خلال كتابة الرواية إلى أنسنة الشخصية النسوية عبر مساءلة الوجود النسوي في المجتمع ليس من أجل تحسين أو تطويرالعوامل التي تؤدي إلى رؤية نضالية أكثر جذرية من أجل تحرير فلسطين لكن من أجل تحرير المرأة كهدف مطلق دائم ويحتاج لمئات السنوات ربما لتغيير العقلية الذكورية داخل المجتمعات. اذا اخذ هذا العامل بالاعتبار سيساهم في وضع رؤية نضالية أكثر جذرية في عملية التحرير ليس تحرير فلسطين كجغرافيا سياسية بل تحرير إنسانها وتحرير الجسد النسوي يعني تخليص غريزة الجنس من السيطرة الذكورية التي تسعى إلى تهميش جسد المرأة وتملك هذا الجسد. هذا السعي لتملك جسد المرأة يلحق باللاجئين إلى دول اللجوء البعيدة التي تتيح قوانينها مساحة أكبر في خلخلة هذه القيود وما ينتج عنها على الجسد، ولهذا نجد تبدلات في الوعي النسوي يتبعها سلوك فردي نسوي يحاول الاستفادة من قوانين حقوق المرأة في الدول الغربية سيما الاسكندينافية وهذا ينسحب على كل اللاجئات العربيات، السوريات مثال صارخ على ذلك، ونراه أيضا في تغير الوعي والسلوك النسوي تجاه الرجال في بلدان اللجوء حيث يتم حماية النساء من قبل هذه الدول بسبب التشريعات الحقوقية النسوية. النساء يلجأن إلى تطليق أزواجهن في بعض الحالات لان المجتمع والقانون يحميهن من هذا التسلط ويطرح تحديات أساسية في تشكيل الهوية الشتاتية.
القبول بهذا المتغير ليس طوعيا من قبل الرجال بل هو حكم الضرورة في كثير من الاحيان في معرض الاندماج أو التكيف مع واقع اللجوء إلى دول أكثر تحررا في النظر إلى قضية المرأة. وليس بالضرورة هو تطور في الوعي المجتمعي عند الرجال بل حتى لدى النساء هو يحمل طبيعة انتقامية في كثير من الاحيان.
الهوية الذكورية للاجئين تتكسر في بلاد اللجوء الغربية وهذا يولد وعيا بقدر ما يسهم في المهانة الواقعة على اللاجئ كثمن يدفعه مقابل هذا اللجوء. إذ سيكون واقع الحال مجبرا أخاك لا بطل.
- هناك اكثر من التفاتة نقدية الى اهتمامك بالحمام في الروايتين لاي حد يمثل عالما للمرأة ولاي حد يكشف عن حرمانها؟
ـ الحمام أو المرحاض دلالة رمزية للخصوصية كحق مطلق لكل إنسان، وحين يقهر جسد المرأة ويقيد فهو تقييد لخصوصية الانسان. الامر الاخر أن أحد الخسارات الناجمة عن النكبة ليست خسارة الارض والوطن فحسب بل خسارة الخصوصية الفردية التي تتراجع بشكل كبير وجوهري في حياة اللاجئين نساء ورجالا على السواء.
الفلسطينيات والفلسطينيون يعيشون في عراء العالم وفي ظروف هشة يسهل فيها الايقاع بهم وملاحقتهم بهدف الابادة المادية والمعنوية وهو ما تعمل عليه الحركة الصهيونية العالمية بتواطؤ ضمني من أنظمة الاستبداد العربية لا سيما إساءة معاملتهم في دول الجوار المتاخمة لفلسطين من أجل تفريغها من اللاجئين الفلسطينيين رويدا رويدا كي يقطعوا عليهم أي احتمال بتهديد الكيان الصهيوني عبر تأسيس حركات نضالية مستقبلا تسعى لتحرير فلسطين. إنهم بلا حقون ليس هذا الجيل بل عدة أجيال من الاحفاد لم تولد بعد وبشكل ممنهج حتى يتم إجهاض أي محاولة لاستعادة فلسطين مستقبلا. الكل متواطئ في هذا الموضوع. الوضع مريب جدا.
أمام العرب والصهاينة لائحة طويلة من الاعتذارات يجب تقديمها للشعب الفلسطيني، حاولت الروايتان تأريخ هذه المرحلة وما قبلها عبر الخيارات والمعاناة التي جسدتها الروايتان للشخصيات الروائية. ثيمة الروايتين وإن تبدو مختلفة شكلت تحديا كبيرا لي من الناحية الفنية والبناء الروائي لتجنب الغرق في الاحداث من الوجهة السياسية. أنسنة المعاناة الفلسطينية وتفحص هذا الكائن المنسي الفلسطيني في معرض معاناته من نكبته المستمرة هو جل اهتمامي الروائي.
لايمكن كتابة الرواية الفلسطينية بعيدا عن نتاج الاحداث السياسية التي ألمت بالفلسطينيين وهذا يجعل من الرواية الفلسطينية أدبا ملتزما نوعا ما بل هو أدب ملتزم إنسانيا وهكذا يجب أن يكون باعتقادي وهو ما لا يتعارض مع مضمون الخطاب الروائي هنا وفي كل هناك.
- بدأت روايتك الثانية بالفرار، ثم صعوبات الانسجام مع الواقع الجديد ثم الرغبة بالعودة الى الوطن الحلم ثم تشكيل مفهوم جديد للوطن، هل قصدت عملية تشكل الفلسطيني الجديد في الزمن المعولم ؟
ـ الفرار من الموت والضياع والتبعثر باللجوء إلى بلدان بعيدة بل إلى أبعد نقطة على ظهر الكوكب أشعر أنه يؤدي وسوف يؤدي إلى نتائج إيجابية غيرمقصودة أهمها إثراء الوعي الفلسطيني وتنوع مكونات الهوية الفلسطينية كهوية إنسانية في الزمن المعولم. مهما طال الزمن سيظل الحنين إلى أرض الاسلاف يتوارث وسيظل البحث عن طريق العودة قائما. الفلسطينيون لن ينسوا ولا يملكون ترف النسيان لان حل قضيتهم سوف يظل يضغط على الضمير العالمي الذي حين يستيقظ – وهو يستيقظ نوعا ما – سيساهم في تحديد معالم الهوية الكونية التي تواجه تحديات تشكلها لرفع الظلم الذي تعانيه البشرية من النظام الرأسمالي العالمي والكولونيالي ومن الديمقراطيات المقنعة فوق لبوس الاستبداد الرأسمالي. قضية تحرير فلسطين هي قضية كل إنسان على ظهر هذا الكوكب، وهي تنتمي إلى تشكيلة واسعة من القضايا العالمية وترتبط بها بنيويا كقضية المرأة والبيئة وقضايا التحرر من النظام المالي والاقتصادي العالمي كما التحرر من الهيمنة الامبريالية وحل قضايا الفقر والجوع والمرض. الفلسطينيون المنتشرون في الشتات الكبير باعتقادي سيشكلون بؤرة حيوية للنضال العالمي بهذا المعنى. في خلسة في كوبنهاجن يلجأ حسام الشخصية الروائية الابرز إلى تأسيس موقع لربط الشتات يطلق عليه أسم “الشمال” وهو نوع من الرمزية لتصحيح اتجاه البوصلة بحيث تنطلق الاتجاهات المراد السير فيها من نجمة القطب الشمالي حيث لجأ آلاف الفلسطينيين، وليس صدفة أن تقوم حكومة السويد بالاعتراف بدولة فلسطين وتكون الاولى في رفضها لقرار ترامب حول إعلانه القدس عاصمة أبدية لاسرائيل.
- ابتعدت عن رمزية الزيتون التي جرى التعامل معها طويلا في الادب الفلسطيني واستخدمت التين الذي قلما يكتب عنه هل يمكننا تفسير ذلك بالغشاوة التي تغطي اعين الباحثين عن سلام زائف؟
ـ رمزية التين في روايتي “حليب التين” و”خلسة في كوبنهاجن” هي أن حليب التين يؤدي إلى فقدان رؤية مؤقت حين يلامس العينين. وهو هنا له دلالة تشخيصية عن واقع هذا الكائن المنسي الفلسطيني لكنه يحمل في طياته الامل في العثور على طريق العودة لأن الغشاوة التي يسببها حليب التين تؤدي إلى عمى مؤقت وليس دائم. قضية فلسطين هي قضية اللاجئين وحين انطلقت الثورة الفلسطينية عام 1965 لم تكن قد احتلت بعد أراضي ما يسمى الـ 67. ما يجري ان الترويج لسلام زائف عبر اتفاقية أوسلو والتنسيق الامني وتهديد المناضلين المعترضين على فساد الرئاسة الفلسطينية بقطع رواتبهم واختصار القضية الفلسطينية برغيف خبز مضرج بدماء الشهداء هو أسوأ ما حدث للفلسطينيين. هذا ما تفعله القيادة الفلسطينية الان من غير خجل أو ضمير. والقبول بها كقيادة هو الغشاء السميك لهذه الغشاوة أو العمى المؤقت الذي يساهم في الانقسام وفي معاقبة أهالي غزة بقطع رواتب موظفي السلطة من حماس أو المعارضين من فتح والفصائل. المقدس الفلسطيني هو ألا تمتد اليد الفلسطينية إلى الفلسطينيين مهما كانت درجة الاختلاف بين الفصائل أو ما يسمى بالسلطة الفلسطينية وإلا ماذا تركنا لاسرائيل أن تفعل بنا؟ المصالحة الفلسطينية واجب وطني مقدس على القادة الفلسطينيين أن يؤدوه تجاه شعبهم. كفانا انقساما. الرواية والادب عموما قادرة على أن تفعل أكثر بكثير مما تفعله السياسة باعتقادي، لأنها تدخل منطقة اللا شعور وليس الشعور فقط مما يجعل تأثير ما تساءل القارئ عنه أعمق بكثير من الشعارات والسياسات مهما كانت محقة لأنها تخاطب الانسان في وجدانه.
- اختلف الكثيرون في الحديث حول علاقة الصحافة والادب وانعكاسهما على اداء الكتاب الذين يعملون في الصحافة، بعضهم يرون ان الصحافة تمنح الكاتب معرفة ودربة في الاداء الكتابي، ويرى اخرون انها تسطح تفكير الكاتب، من خلال تجربتك كيف تنظرين لهذه المسألة ؟
ـ أنا أوافق نوعا ما أن الكتابة الصحافية لا سيما كتابة التحقيقات كنوع أدبي تختص به الصحافة يساهم في رفع مستوى أداء الكتاب لا سيما في حقل الرواية وهو ما نعرفه عن غارسيا ماركيز على سبيل المثال لا الحصر. لكن هذا يعتمد على براعة الصحافي في مجال الكتابة والمساءلة النقدية التي يطرحها. ليس كل صحافي يتمتع بمهارات كتابية تؤهله لكتابة الرواية أو الشعر. للأسف الوسط الاعلامي “المكتوب والمتلفز” على السواء يحوي الكثير من الجهلة أوالمروجين للسلطات القمعية والمنافقين الذين يتاجرون بأقلامهم وأصواتهم لمصلحة الطغاة. الامر يتعدى الدربة الكتابية أو شيوع الامية اللغوية بين أوساط الكثير من الاعلاميين، إلى الموقف من الحياة برمتها والوجود الانساني الذي هو في مواجهة عواصف متعددة الرؤوس وعلى رأسها الاستعمار والفقر والجوع والمرض والأمية المعرفية وأخطار البيئة وتوحش النظام المالي العالمي ..إلخ.
الصحافي مؤهل للاستفادة من دربته على الكتابة إذا لم ينس ولو للحظة الانحياز للقارئ وهمومه على أن يعمل على تسخير براعته في الكتابة لتجاوز المعوقات التي تضعها المؤسسة الاعلامية على حريته في التعبير وأن يسعى لأن ينتصر دوما لقضايا الناس. يبقى أن الفن الروائي فن كتابي وجمالي قائم بذاته يتطلب من الروائي أن يكون مثقفا معرفيا ونقديا وذكيا بما لا يسمح بأن يتواطأ على نفسه أو على قضايا الناس وهنا أخص بالذكر قضية المرأة كقضية جوهرية يجب أن يلحظها الكتاب والكاتبات في كتاباتهم الروائية والادبية كي يتجنبوا إعادة إنتاج الوعي الذكوري في ما يخص قيما أصيلة منها صورة المرأة الحبيبة والأم والصديقة ونمطية صورة العلاقات الانسانية بين الجنسين وبين أفراد المجتمع، لأن الثقافة الذكورية ما زالت قادرة على التسلل من غير قصد الروائيين والروائيات في الانتاج الادبي والسلوكيات اليومية للمثقفين والمثقفات.
أعتقد أننا مطالبون أن نتفحص ما نكتبه أو ما نمارسه إن كان يتعارض مع ما نعلن عنه من مواقف تحررية. الكتابة عن الجنس ليست بالضرورة تروج لتحرر الجسد النسوي من الثقافة الذكورية بل قد تلعب كثيرا في ترويج هذه الثقافة إن أسيء استخدام كتابة الجنس في الرواية والادب والفن السينمائي بوصفه أمرا مثيرا للشهوات لدى قراء ما تزال رغباتهم أسيرة للثقافة الذكورية.
كلمة أخيرة أقولها وهو أنه ليس لزاما على الرواية الفلسطينية أن تكتب دائما عن ثيمات تتعلق بشكل مباشر بموضوع الشتات أو المعاناة الناجمة عن النكبة، نحن بشر ونحب أن نكتب بحرية في كل شيء حتى لو كانت روايات بوليسية، لكن يجب أن أشير إلى أن الرواية الفلسطينية من الصعب أن تبتعد عن هموم القضية الفلسطينية لان تداعياتها تؤثر في أبسط تفاصيل حياتنا اليومية وتربك خياراتنا وتضعنا أمام تحديات هائلة وفي مواجهة يومية مع الذات وإعادة تشكيل الذات في ظل وجود الاخر المختلف العدو والشقيق العربي والمضيف الغربي وأيضا الاخر الفلسطيني نفسه وهو أصعب التحديات.
- تنشر بالتزامن مع صحيفة الدستور الاردنية