logo
صور عابرة من فلسطين الأسيرة
الجمعة 25/03/2022

  • عبد الحميد صيام

الزيارة الخاطفة لفلسطين المحتلة تثير لديك الكثير من الأسئلة والمواجع، أكثر مما تقدم لك من أجوبة. وقد تصادف وصولي مع موجة برد قاسية تكاد تخترق العظام، لم تشهد البلاد مثلها في شهر مارس منذ مئة عام. فالبيوت هنا غير مهيئة لمثل هذا البرد، كما تباعد الفلاحون هذه الأيام عن كوانين النار واستخدام الحطب، وما يضاف إليه من بقايا غلة الزيتون بعد عصره، ويسمى محليا “الجفت”، الذي كان يضاف إلى الحطب فيحتفظ بالنار لساعات وينشر الدفء في أرجاء البيوت الصغيرة. استبدله الناس بشكل عام بالمدافئ الكهربائية أو الغازية، التي بالكاد تكفي لمن يضعها أمامه مباشرة. تحاول أن تغرف أكبر قدر من المعلومات وتلتقي بأكبر عدد ممكن من المعنيين والناشطين والمفكرين، لتفهم الصورة على حقيقتها ما أمكن ذلك.

عنف المستوطنين

مساء الثلاثاء وبعد عملية بئر السبع، التي أدت إلى مقتل أربعة إسرائيليين، انتشر المستوطنون في أنحاء الضفة الغربية يحطمون كل شيء في طريقهم. اعتدوا على الناس والسيارات والبيوت، ورشوا المسامير في الطرقات. انتشروا في القرى والمدن والطرق السريعة، يحملون السلاح تحت معاطفهم ذات الألوان الداكنة. وكان انتشارهم في ساعات الليل كي ينشروا حالة أعلى من الرعب في القرى والمناطق السكنية القريبة من المستوطنات. حصلت قريتي على نصيبها من العنف والتدمير. فقد دخلوا القرية من الأطراف الشمالية المغلقة تماما، بهدف عزل القرية فورا في حالة الطوارئ. على مدخل البلدة الرئيسي والوحيد أقام شباب القرية نوبات حراسة ليلا، تبدأ الساعة العاشرة مساء، وتنتهي مع صلاة الفجر. يتجمع نحو عشرة شباب ليليا بالتناوب للحراسة. يوقفون أي سيارة تصل إلى البلدة للتأكد من هوية صاحبها. لكن المستوطنين اختاروا الأطراف الشمالية المغلقة، فدخلوا مع منتصف الليل وراحوا يكسرون بهراوات وقضبان حديدية السيارات والشبابيك الزجاجية على الشارع العام. وبلغ عدد السيارات التي حطمت 21 سيارة، إضافة لتحطيم شبابيك عدد من البيوت. المهزلة أن الجيش جاء بعد ساعات بناء على طلب من المجلس البلدي، الذي يتصل بالأمن الوقائي الفلسطيني، والذي يقوم بدوره بتبليغ الجانب الإسرائيلي. تصل الدورية متأخرة كي تعطي فرصة كافية للمستوطنين لممارسة إرهابهم.

الإحباط أو اللامبالاة

الغالبية من الفلسطينيين أصبحوا خارج المعادلة السياسية. مصابون بالإحباط بسبب انسداد الأفق وإغلاق نوافذ الأمل. وحالة العجز التي تمر بها القضية الفلسطينية أساسا نتيجة ممارسات السلطة التي اختصرت دورها في تنسيق أمني واسع. قيادة لا علاقة لها بهموم الناس ومعاناتهم، في ظل غلاء فاحش. الأسعار نفسها يدفعها الفلسطيني والإسرائيلي، إلا أن معدل دخل الأخير قد يصل إلى عشرة أضعاف دخل الفلسطيني. السلطة معنية بتقسيم المناصب والمواقع على أصحاب النفوذ وأبناء وبنات المسؤولين. إنه بلد صغير لا تُخفى على أحد قصص الفساد والإفساد.

بدل الحديث عن استئناف المفاوضات والعودة لاسطوانة حل الدولتين، يدور الحديث هنا عن السلام الاقتصادي، الذي يبدو أن هناك عناصر من القيادة تروج لهذا النوع من السلام المسموم. وهناك مظاهر عديدة لمثل هذا التوجه، كزيادة أعداد تصاريح العمل في الداخل، وتسهيل مرور العمال من معابر معينة تغض إسرائيل الطرف عنها، وزيادة قبول حالات “جمع الشمل” للعائلات وأكثرهم من سكان الولايات المتحدة، لمعرفة سلطات الاحتلال أن هذا الفئة تأتي للوطن للزيارة لا للاستقرار الدائم، وأولادهم أصلا ملتصقون بالمجتمع الأمريكي أكثر من آبائهم، لكن هناك من يريد أن يصنع لنفسه شعبية من وراء توزيع هذا العدد المحدود من بطاقات جمع الشمل. الأمور تسير هنا بخطوات واضحة وأكيدة نحو التحضير لمرحلة ما بعد عباس. القلة الناشطة في مناطق السلطة الفلسطينية تراقب بدقة من الأجهزة الأمنية، ويتم التعرض لمن يشكل ثقلا في الساحة الفلسطينية. وقد شكلت جريمة اغتيال نزار بنات مرحلة فارقة في الأوضاع الداخلية وجسدت رسالة قاسية مفادها “نحن فوق القانون ونعمل ما نشاء.”

القدس والحدائق العامة

الخطر الأكبر على القدس ليس في اقتحامات المسجد الأقصى المتكررة من قبل المستوطنين والمتطرفين بحماية من قوات الأمن، بل خطة إسرائيل التي يجري تنفيذها الآن لإقامة عدد من “الحدائق الوطنية” حول سور القدس، كما يسمونها.

والحدائق الوطنية جرى التخطيط لها منذ عام 1974، وتمتد حول محيط أسوار القدس من جهتها الخارجيّة، وتشمل مناطقَ مأهولة واسعة في حيّ وادي حلوة في سلوان. يعيش في هذا الحيّ أكثر من 5000 فلسطينيّ في أكثر من 250 مبنى تحوي أكثر من 700 شقة. ومنذ التسعينيات وطّنت جمعية “إلعاد” السياسية الموكلة بإدارة الحدائق، وجمعيات أخرى في الحيّ، نحو 60 عائلة مستوطنين، يصل عدد أفرادها إلى نحو 300 شخص. خطورة هذه الحدائق ليس في ما تبتلعه من أرض فلسطينية فحسب، بل في عدد المعالم والمقابر والأحياء السكنية الفلسطينية التي سيتم تجريفها. وتسعى جمعية “إلعاد” بالتعاون مع وزارة السياحة ووزارة البيئة إلى تأهيل القدس، لتتسع لعشرة ملايين سائح سنويا. وقد تم البدء ببناء عدد من الكنس، من بينها كنيس ينافس في ضخامته قبة الصخرة لكي تعطي الانطباع أن المعالم اليهودية لا تقل ضخامة عن المعالم الإسلامية والمسيحية.

والمشروع الثاني الخطير الذي تعمل السلطات على تنفيذه هو “وادي السيليكون” في منطقة وادي الجوز الفلسطينية، وقد أقرت السلطات الإسرائيلية إنشاء منطقة صناعية ذات تكنولوحيا عالية في هذه المنطقة الواقعة شرقي القدس بتكاليف تزيد عن 600 مليون دولار، حيث يخصص 250 ألف متر مربع من المشروع للعقارات وشركات التكنولوجيا العالية، بالإضافة إلى 100 ألف متر مربع أخرى مقسمة للتجارة والفنادق. ويعتبر وادي الجوز مركزاً اقتصادياً وصناعياً مهما للفلسطينيين في القدس المحتلة، حيث يوجد فيه ما يزيد على مئتي منشأة من ورش إصلاح السيارات والميكانيكا والمحال التجارية والخدمات الأخرى..

أستاذي محمود شقير

كنت في كل زيارة للوطن أعقد العزم على لقاء أستاذي في المدرسة الثانوية في رام الله محمود شقير أطال الله في عمره. ولكن تجرفني المشاغل العديدة والزيارات لربوع الوطن والكتابة ويتعذر اللقاء. هذه المرة قررت أن أزوره أولا. رتبت معه الزيارة قبل أن أصل فلسطين. كنت دائما من متابعيه الدائمين والمعجبين بغزارة إنتاجه. كان هو والمرحوم خليل السواحري أكثر أستاذين أثرا فيّ وفي جيل كامل من خريجي ثانوية الهاشمية في رام الله. كانا يتمتعان بحس وطني ووعي كبيرين ويكتبان في مجلة “الأفق الجديد” التقدمية. أما السواحري فقد التقيته في عمان بعد طرده من فلسطين المحتلة، وأما محمود شقير “أبو خالد” فلم تتح لي الفرصة أن ألقاه إلا يوم الاثنين الماضي في بيته ومع أولاده وأحفاده في بلدته الجميلة “جبل المكبر”، المطلة على القدس من أعلى. كان لقاء حميميا شاركنا فيه الصديق المحامي حسن عبادي من مدينة حيفا المعروف بدفاعه الدائم عن أسرى الحرية في سجون نظام الفصل العنصري. كنت حريصا على أن أسمع تفاصيل عن إبداعاته التي تتجسد في أكثر من 60 كتابا بين رواية وقصة ومسرحية وسيناريو مسلسلات، استحق على أثرها هذا الكم الهائل من التكريمات التي تغطي حائطا بالكامل. وكان أستاذي يحب أن يسألني عن تجربتي في الأمم المتحدة. وما أثلج صدري أن أستاذي قد ذكرني في كتاب سيرته الذاتية “تلك الأمكنة” الصادر عام 2020 حيث كان يعدد بعض طلابه المبدعين في الميادين كافة وأدرجني تحت من أبدعوا في المجال الدبلوماسي.

عكا وتشويه التاريخ واللغة

من غير المعقول بالنسبة لي أن أزور الوطن، من دون أن أعرج إلى ديار عكا الجميلة، التي أبدع في وصفها الشاعر راشد حسين. الشيء الاستثنائي في عكا أنك وأنت في السوق القديمة داخل السور، تشعر بأنك في مدينة فلسطينية تماما ولا أثر للاحتلال الصهيوني فيها لولا أن بعض اليافطات وأسماء المحلات تكتب بالعبرية إلى جانب العربية. وعليك أن تزور مطعم عرفة لتأكل فيه الفلافل الشهيرة. وللمطعم حكاية فقد رفع صاحبه صورة ياسر عرفات عام 1971 فحكمته المحكمة سبع سنوات سجن فعلي وعندما خرج أطلق على مطعمه اسم عرفة تحايلا على الاسم الذي رمى به في غياهب السجن. أكثر ما يزعجني في رحلة عكا هو تشويه أسماء المدن والقرى الفلسطينية ليس فقط في كتابة أسمائها بالعبرية، بل بإعادة كتابة الأسماء العبرية بحروف عربية. فمثلا بلدة الخضيرة تكتب بالحروف العبرية حاديرا ثم يكتب اسمها بالعربية بالضبط حاديرا مبتعدا عن الاسم الأصلي. وعكا تصبح عكو وصفد يصبح اسمها العربي تسفات، وسعسع بلد راشد حسين تصبح ساسا، والناقورة تصبح ناكوري والبصة تصبح بيتسيت، واسم القدس بالحروف العربية اختفى تماما ليحتل مكانه اسم أورشليم. يريدون أن يقطعوا صلة الفلسطينيين بأرضهم ووطنهم وتاريخهم وحضارتهم، لأنهم خائفون، فعلا مرعوبون لأنهم هم الطارئون على هذه الأرض وليسوا أكثر من “عابرين في كلام عابر”.

  • عن القدس العربي
مشاركة