logo
فلسطين الجديدة
السبت 22/10/2022

  • عبد الحليم قنديل

خارج كل النصوص والمشاهد المحبطة، بما فيها «اتفاق الجزائر» الأخير بين الفصائل الفلسطينية المتنابذة، الذي فشل في مجرد تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية، ناهيك من الصمت الدولي المتجاهل والتواطؤ العربي الرسمي، خارج كل هذا الظلام وبالضد منه، ينبعث ضوء باهر جديد من فلسطين المحتلة، ومن القدس والضفة الغربية بالذات، ومن مخيم «شعفاط» المقدسي ومن جنين إلى جبال نابلس، المدينة التي يسمونها «دمشق الصغرى»، لدواعي تشابه العادات وأشهى المنتجات الغذائية والاختلاط الشامي التاريخي، وطرز المباني في شقها القديم، وقد تحولت اليوم إلى قلعة كفاح و«عرين» للأسود، وتواصل قوات الاحتلال الإسرائيلى حصارها حتى ساعة كتابة السطور، بدعوى البحث عن قادة تنظيم «عرين الأسود»، وهو حركة بلا قيادة معلنة، وبلا تبجح ولا افتعال، وشبابها يخفون الوجوه وراء اللثام الفلسطيني، ويعلقون شرائط حمرا على فوهات البنادق، رمزا لامتناعهم عن التورط في أي خلاف فلسطيني، ويوجهون دعوة جامعة سائلة لكل الفلسطينيين، تحثهم على التوحد في عمل شعبي ومسلح لكسر الاحتلال، وبصفتهم من الفلسطينيين لا غير، ودونما تحزب ولا انتساب لغير فلسطين وأحلام تحريرها من النهر إلى البحر.

ومن سنوات، يحدثك الكثيرون عن انتظار انتفاضة فلسطينية ثالثة، في إشارة إلى الانتفاضتين الأقرب في حياة الشعب الفلسطيني، انتفاضة 1987 الأولى، التي انتهت بعقد اتفاق «أوسلو»، ثم الانتفاضة الثانية، التي نشبت أواخر 2000، وانتهت بعد رحيل الزعيم الفلسطيني التاريخي ياسر عرفات، وكان إنجازها الأكبر هو جلاء قوات الاحتلال عن قطاع غزة، فيما بدأ بعدها زمن من وهن، مالت فيه قيادات فلسطينية إلى التكفير بالانتفاضات والمقاومة المسلحة، والاستغراق في آثام «التنسيق الأمني» مع الاحتلال الإسرائيلي، ومطاردة الخلايا الفدائية في القدس والضفة الغربية، وبالمقابل توالت حروب غزة البطلة الأربعة مع كيان الاحتلال، ووصلت ذروتها مع حرب «سيف القدس» أواسط 2021، ومع معركة أقصر وقتا بعنوان «وحدة الساحات» قبل شهور، صاحبت خروج أجيال الفلسطينيين الجديدة عن النص المفروض، والتكامل المتزايد في حركة الفلسطينيين داخل وخارج ما يسمى «الخط الأخضر» وأسوار الفصل العنصري، وتصاعد معدلات الحيوية الفائقة لشباب فلسطين المحاصر من كل جانب، رغم محاولات الإلهاء وتزوير الهوية وتمييع الشعور والسلوك، وانتفاخ ظواهر الفساد و»الاستزلام»، والانجرار إلى استنزاف الروح الفلسطينية، والإيحاء المتصل بأن سيرة الكفاح الفلسطيني صارت من الماضي، إلا أن الحقائق على الأرض كان تأثيرها أقوى، فقد توحش الاستيطان اليهودي في زمن سلام «أوسلو» الموهوم، ومضت عملية تهويد القدس إلى أقصاها، وتضاعفت اقتحامات الإسرائيليين للمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، مع العذاب اليومي المرير للفلسطينيين عند حواجز قوات الاحتلال، وتراكمت كل المآسي لتخلق جيلا فلسطينيا جديدا، حوّل أغلب أيام فلسطين الجديدة إلى انتفاضات متدفقة، تجاوزت العد الإحصائي إلى حركة لا تهدأ، وكلما قمعت بعنف، وبالقتل والأسر وهدم المنازل، زاد لهيبها وإلهامها، وتعدت العد الانتفاضىيالثالث والرابع والخامس إلى آخر «الروزنامات» بانتفاضات السكاكين والدهس بالسيارات، والعمليات الفدائية المقتحمة إلى الداخل الفلسطيني المحتل منذ نكبة 1948، من النقب إلى تل أبيب ذاتها، ومن بؤر مقاومة تلقائية تكاثرت من جنين إلى نابلس والأغوار، إلى قلب القدس، ومن دون إعلان عن انتساب إلى تنظيم فلسطيني معروف غالبا، وتوالت أساطير فداء، لن تكون آخرها أسطورة الشاب إبراهيم النابلسي، الذي زغردت أمه في عرس استشهاده، وإلى القادة المجهولين لحركة «عرين الأسود»، وإلى إبداع حلق الرؤوس، تيمنا وتشبها بصورة الفدائي العبقري عند حاجز «مخيم شعفاط»، وإلى التكبيرات المدوية على سطوح المنازل، والتجاوب الواسع النطاق مع نداءات «عرين الأسود»، فقد خرجت حركة الشعب الفلسطيني عن بيت الطاعة للفصائل و»الأبوات»، وباتت صداعا مزمنا لكيان الاحتلال، الذي كلما قتل وأسر لم يردع، بل زاد في اشتعال الجمرة الفلسطينية المتحفزة تحت الرماد، وكلما ذهب شهيد أو أسير، جاءت من خلفه قوافل الذاهبين للشهادة، وهي تدرك أنها تكسب رضا الله والشعب المظلوم، ولا تخسر شيئا غير قيودها وحياة الهوان تحت الاحتلال، فقد اتحد المعنى المقدس عند الفلسطيني بتراب وطنه المغتصب، وعند نقطة الاتحاد يكون الغليان، والثقة في وعد الله لعباده الصابرين المبادرين، ودونما انتظار لمدد لا يأتي من الأمة خارج فلسطين، ربما إلا الدعاء والتعاطف، وأمل الامتناع عن ظلم ذوي القربى بالتطبيع الفاجر مع العدو، وبالخيانة الصريحة، ودونما انتظار أيضا لحوار أو مصالحات الفصائل، التي لا تتفق أبدا على شيء في المدى المنظور، وكل ما يهمها توزيع وتقاسم كعكة السلطات الوهمية، أو الاتجار بمعاناة الشعب الفلسطيني، وكسب رضا أو عطف وتمويل دوائر دولية أو إقليمية، وحرف القضية الفلسطينية عن جوهرها، الذي كان ويظل قضية تحرر وطني، لا يمكن كسبها بغير مضاعفة تكاليف بقاء الاحتلال، وليس بتيسير مهمته وخفض تكاليفها، فلا شعب يكسب جلاء الاحتلال بغير الدماء، ومهما كانت قوة الاحتلال، وحجم قوته العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية ودعمه الدولي، وهو ما يبدو ظاهرا في حالة كيان الاحتلال الإسرائيلي نفسه، الذي تتزايد انشقاقاته وانقساماته وعجزه عن تكوين حكومة مستقرة، ويدير انتخابات داخلية عامة للمرة الخامسة في عامين، لن تأتي بغير اتجاهات اليمين المتطرف ذاتها، التي يصيبها الهلع من صحوة وبسالة الشعب الفلسطيني، وتعتقد أن الإمعان في قتل الفلسطينيين، قد يمحوهم من التاريخ والوجود، وأن انتعاش التطبيع مع حكام العرب قد ينقذهم، ويعفي الاحتلال من سوء المصير المقبل حتما.

وقد لا يكون من جدال كثير في دواعي تفجر صحوة الشعب الفلسطيني الحالية، من عينة انسداد أفق التسويات السياسية الموهومة، تحت عنوان «حل الدولتين» وغيره، أو استبدال هدف التحرير بدعاوى مقابلة، من نوع تحسين حياة الفلسطينيين، وتشغيلهم في «إسرائيل»، أو انتظار عون يأتي للفلسطينيين من أمة وعالم مشغول بألف قضية ونزاع، فقد رسخ في وجدان الشعب الفلسطيني من سنوات، أنه لا أحد سينتصر لقضيته، إلا إذا انتصر لها الفلسطينيون أولا، وأن القضية آلت إلى الفلسطينيين أولا وربما أخيرا، وهو ما زاد منسوب التصميم والثقة في التعويل على قوته الذاتية، خصوصا مع التحول المطرد في أوزان الأغلبية السكانية على أرض فلسطين التاريخية كلها، ورجحان الكفة لصالح التكاثر السكاني الفلسطيني، إضافة لارتفاع المستوى النوعي للشباب الفلسطيني الجديد، واتقان وسائط التواصل الجديدة، وخبرة الاحتكاك المباشر مع العدو وجيشه وقطعان مستوطنيه ومتطرفيه، ومعرفة نقاط قوته وضعفه، وكلها عناصر مضافة، ترفد صحوة الشعب الفلسطيني بمدد لا ينفد، يجعله قادرا على إدامة الكفاح بسبل مبتكرة، تحاصر أوضاع التراجع في حركة الفصائل الفلسطينية المتقادمة، وتقصف مزاعم نخبة «أوسلو» وسلطاتها، وتدفع في اتجاه قطع روابط البعض المشينة مع كيان الاحتلال، ودعم اتجاهات إلغاء التزامات «أوسلو» المهينة، وسحب الاعتراف السابق بشرعية مزورة لكيان الاحتلال الاستيطاني الإحلالي، الذي لا تسقط خطاياه ولا مجازره بالتقادم، ويفاجأ بصحوة الشعب الفلسطيني، الذي خلقته المحن والخيبات خلقا جديدا عفيا، وزال خوفه من جيش الاحتلال، فالخوف شعور طبيعي عند الأفراد والشعوب، لكنه يسقط عند امتلاء وعائه لحافته، وعند بلوغ القمع والقتل ذروته، وعند زوال الخيط الرفيع الفاصل بين الموت والحياة، والشعب الفلسطيني خبر حياة الموات، وصادف كل صنوف المتآمرين والمثبطين، وبات يدرك أن لا حياة له إلا مع المقاومة الجماهيرية والفدائية، فكل السبل الأخرى انتهت إلى بوار أكيد، وإلى احتلال منخفض التكاليف، والمقاومة وحدها هي التي تزيد وتضاعف تكاليف الاحتلال، وتصل بالمحتلين تدريجيا إلى حافة النهاية، عندما تصبح تكاليف الاحتلال أعلى من فوائد بقائه، هكذا كانت خبرة كل الشعوب التي تعرضت للاحتلال، وخبرة الجزائر المتحمسة اليوم لتوحيد الفلسطينيين مع الاحتلال الاستيطاني الفرنسي لمدة 130 سنة، بل خبرة الشعب الفلسطيني نفسه في إجلاء الاحتلال عن غزة، لا نعني طبعا، أن كل تحرك سياسي مناصر للحق الفلسطيني ليس له جدوى، بل الجدوى تتحقق فقط على وقع المقاومة لا غيرها، فالتاريخ الإنساني ليس رصيفا لتسول المساندة والتعاطف، بل مجال لعمل متكامل، ينتظم في حركته الشعب الفلسطيني كله في الداخل وفي الشتات، ويعيد بناء حركة وطنية فلسطينية، تليق بتضحيات الشباب الفلسطيني، ومقاومته الجسورة المجددة المبدعة، التي تقدم للعالم صورة فلسطين البهية، وتعيد النجوم الحائرة إلى مداراتها الأصلية.

  • عن القدس العربي
مشاركة