فلسطين تحتضن أكبر فسيفساء في العالم.. التاريخ يبدأ من هنا!
الجمعة 3/12/2021- بسام جميل
نافذة تُطل على الحاضر. وإذا نظرنا من خلالها، كانت الحكمة في صراع الخير والشر تحت ظلال شجرة الحياة.
لعلّ الفنون كالرسم والنقش والنحت، من أهم أدوات التاريخ ليسرد حكايته، ولا يعني ذلك أنّ دونها من الفنون غير قادر على السرد، بل هو كذلك، لكنّ عمره الإفتراضي أقل بكثير، لضعف صموده أمام نزعات الطبيعة وكوارثها، دون أن يغيب عنا عبث الحروب والصراعات البشرية وجدواها.
لا ينجو إلا القليل من المواقع الأثرية، أقله، ما يكفي من شواهد تخبرنا أنّ ثمة ما هو حقيقي وأصيل ومتجذّر في الأرض والتاريخ، بوثائق دامغة. ربما حاول البعض إعادة التأويل، أو اختراع حكاية أخرى، فيصبح علم الآثار ومخرجاته، هدفاً للتزوير وأداة من أدوات الصراع، لأنّ “المنتصر” في الحرب يعجز أحياناً عن توثيق هذا النصر وحفظه، فيعبث إن استطاع ذلك، ليخلق معادلة سردية أخرى. لعله ينجح إلى حين تؤدي المكتشفات الجديدة دورها وتطعن بروايته.
لم يَكُفَّ الاحتلال الصهيوني يوما، عن محاولاته طعن وإنكار وجود الفلسطيني على أرضه، فكان أن اجتهد بخلق سرديات تاريخية عديدة، ليبنيَ وجوده الوهمي قبل إعلان دولته وبعدها، فزرع الأسطورة المُجسّدة في الأرض، عبثا، ليكتشف العالم بعد محاولات توالت، أنّ التزوير الذي تمارسه دولة الاحتلال، لا يطال السرد التاريخي الذي تمّ تدوينه في الكتب فحسب، بل في الحفريات المُقلدة والرخيصة التي حاول طمرها في أماكن عديدة من فلسطين التاريخية، بل وتجرأ “السُواح الصهاينة” في محاولة دفن تاريخهم المزور على امتداد المواقع الجغرافية بجوار نهر الأردن في الضفة الشرقية منه، لتكتشف السلطات الأردنية ذلك وتمنعهم من العبث بتاريخ البلاد، أقلّه في الجهة الشرقية من النهر.
الحجر يشهد ويقاوم
التاريخ، النقش، علم الآثار.. عناوين تبدو للعامة شأن أهل الإختصاص والباحثين والمؤرخين، فلا وقت لسياحة أثرية في بلاد ترزح تحت وطأة الاحتلال. بيد أن فلسطين، ليست كأيّ بلد، ولا احتلالها كأيّ احتلال، فيصبح كل شيء فيها، حتى الهواء، عاملاً فاعلاً في المقاومة ضد هذا الاحتلال، ومن هذا المنطلق، يصير أيّ اكتشاف أثري، فرصة هائلة لمقاومة محاولات العدو في نفينا، وإعادة إنتاج لغة تاريخية جديدة، تناسب أطماعه وتُعزّز مصداقيته الواهنة.
منذ أن تأسست السلطة الفلسطينة، ولعلّ هذا من إنجازاتها القليلة، بدأ العمل على التنقيب وإعادة ترميم ما يُعتبر كنزاً تاريخياً وجمالياً متفوقاً في أرض فلسطين التاريخية، وتحت سيطرة هذه السلطة الوليدة.
أكبر أرضية فسيفساء مُتصلة في العالم. بمساحة 847 متراً مربعا، من خلال رسم 38 سجادة من عشرات أنواع الحجارة في فلسطين وبألوان مختلفة. لتكون جزءاً من القصر الذي شُيّد في حينه من طابقين؛ الأول عبارة عن غرف خدمات وحراسة، والطابق الآخر كان يعيش فيه الخليفة، بالإضافة إلى منطقة النافورة، ومسجدين، وقاعة إستقبال.
في الزاوية الشمالية الغربية من صالة الإستقبال، وُضعت سجادة شجرة الحياة، وهي عبارة عن لوحة أرضية فسيفسائية موجودة في غرفة الديوان، وتُجسّد شجرة برتقال على يسارها أسد يفترس غزالا، وعلى يمينها غزالان يعيشان بسلام.
الإكتشاف العظيم
يقع “قصر هشام”، على بعد 5 كيلومترات إلى الشمال من مدينة أريحا. ويعتبر من أهم المعالم السياحية في فلسطين المحتلة. كان القصر، الذي شيّده الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك سنة 724 – 743 م والوليد بن يزيد 743 – 744 م مقراً للدولة، فمن المعروف أنّ السلالة الأموية الإسلامية قد حكمت إمبراطورية تمتد من الهند إلى فرنسا، وكما هو الحال مع معظم الخلفاء المسلمين فقد فضّل الخليفة هشام بن عبد الملك حرية الصحراء على حياة المدينة في العاصمة دمشق.
إكتُشف الموقع عام 1873. وكان فريدريك جاي بليس (1) قد كتب عن الموقع عام 1894 لكنّه لم يقم بحفريات. إنّ أغلب المعلومات مستمدة من الحفريات التي أشرف عليها عالم الآثار الفلسطيني ديمتري برامكي (2) بين الأعوام 1934 و1948.
نُشرت نتائج أبحاث برامكي في تقارير أولية ومقالات، في فصلية دائرة الآثار الفلسطينية، ولاحقاً في أطروحته للدكتوراه عن “الثقافة والعمارة العربية في الفترة الأموية: بحث مقارن يستند بالأخص على نتائج الحفريات في قصر هشام”.
في عام 1959 قام زميل برامكي، عالم الآثار روبرت هميلتون (3) بنشر كتاب عن الموقع بعنوان “خربة المفجر: قصر عربي في غور الأردن”، ويحلل الكتاب محتويات القصر من وجهة نظر تاريخ الفن ولا يتطرق لبحث برامكي الأثري. العديد مما وجد خلال حفريات برامكي وهميلتون محفوظ اليوم في متحف “روكفلر” في القدس.
يقول الخبراء بأنّ زلزالاً عنيفاً قد ضرب المنطقة ودمّر الأبنية في قصر هشام قبل أن تكتمل. وبفعل الأتربة والأنقاض المتراكمة، حُفظت الفسيفساء والرسومات الرائعة الموجودة في القصر.
وتُعتبر الفسيفساء الموجودة على أرضية الحمامات، إلى جانب شجرة الحياة الموجودة في غرفة الضيوف من أهم عناصر الجذب للسواح والزوار، وهي واحدة من أجمل الأعمال الفنية القديمة في العالم.
قام صلاح الدين الأيوبي وجنده، بمحاولة إعادة السيطرة على القصر في القرن الثاني عشر الميلادي، ولكن بعد ذلك وحتى سنة 1940 من هذا القرن تحوّل القصر إلى مقلاع للحجارة لأهالي أريحا.
كان يتم تزويد القصر بالماء من العيون الطبيعية القريبة، مثل عين السلطان، وكانت تمتد القنوات وصولاً إلى بركة لتجميع المياه قرب قاعة الإستقبال، لخدمة الحمامات الموجودة فيه، عدا كون “عين السلطان” هي من المناطق التي سُكنت في بدايات التاريخ، وتُعتبر، هي والمنطقة المحيطة في أريحا الفلسطينية، من أقدم ثلاث مدن في العالم.
من الملاحظ أيضا، أنّ مجموعة من جيش صلاح الدين الأيوبي قامت بترميم بعض الغرف في القصر وسكنتها في القرن الثاني عشر بعد الميلاد. وقد عُثر على بعض المخلفات التي تعود لهم، مثل: العملات المعدنية القديمة، والمصنوعات الفخارية.
بقي القصر على هذا الوضع؛ أي بمثابة أنقاض، حتى عام 1933، حين بدأت الحفريات الأثرية عملها. ثم قامت وزارة الآثار الأردنية، وعلى مدى خمسة أعوام (1957 – 1961) بالكشف عن بقايا القصر. وقد تمخّضت الحفريات التي جرت ما بين 1957 – 1958 عن اكتشاف بيوت العمال الذين قاموا ببناء القصر. هذه الإكتشافات تعود إلى الفترة المُمتدة بين القرنين الثامن والثاني عشر الميلاديين.
يعكس القصر مدى التقدم في الحياة الإجتماعية لدى المسلمين؛ فالبناء مُزوّد بشبكة من القنوات موصولة بأماكن للإستحمام. الجَصّ المنحوت الذي وُجد في هذه الأبنية، نُقل إلى المتحف الفلسطيني للآثار في القدس المحتلة؛ حيث يتمّ عرضه الآن؛ لأنّ الجَصّ يُعدّ من المواد الهشة، ولا يمكن تركه عُرضة لتغيرات المناخ وتبدّلات الطقس.
قصر هشام يفتح أبوابه أمام الزوّار
وقد قامت دائرة الآثار الفلسطينية بأعمال ترميم وتأهيل واسعة في هذا الموقع منذ عام 1995، شملت الأرضيات والجدران والطريق المؤدية إلى القصر؛ وفي العام 2016 أُزيحت الستارة عن اللوحة الفسيفسائية، وافتُتحت أمام السياح والزوار لشهر واحد فقط، وعلى إثر ذلك ارتفع عدد السياح بنسبة 900% مقارنة مع نفس الفترة من العام 2015.
لعلّ أرقام الزيارات التي شهدها الموقع على مدى سنوات طويلة، توضح أهمية هذه المقاومة التي نحتاج أن نؤجج الفعل فيها وننتصر لها، لتكون رافداً لكل أدواتنا الأخرى، فالتاريخ ينصر أصحاب الحقّ إذا أجادوا تطويع أصواته لقول الحقيقة لا أكثر.
في تموز/يوليو الماضي، أدرجت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة “إيسيسكو”، قصر هشام، على قائمة التراث الخاصة بها.
وعلى مدار أربع سنوات ونصف من العمل، استطاعت وزارة السياحة الفلسطينية، بتمويل من الوكالة اليابانية للتعاون الدولي “جايكا”، وبتكلفة 12 مليون دولار، بناء سقف يُغطي لوحة الفسيفساء بمساحة تُقدّر بحوالي 2500 متر مربع، بعد أن تهدم السقف الأصلي بفعل زلزال ضرب الموقع عام 749م.
تمّ الإفتتاح الجديد لقصر هشام بن عبد الملك في مدينة أريحا منذ أيام، ليكون باكورة الموسم السياحي الشتوي في فلسطين، على أمل أن يستقطب أعداداً كبيرة من السياح من دول العالم كافة.
(1) عالم إنسان وآثار أمريكي، عاش في جبل لبنان، وانخرط في صندوق استكشاف فلسطين، وعمل في مجال التنقيب عن الآثار في تل الحسي والقدس وغيرها من المواقع التي تمّ اكتشاف العديد من الآثار فيها.
(2) من أقدم عالم الآثار في فلسطين. قام بحفريات في مواقع أثرية عدة في العالم العربي أهمها: موقع خربة المفجر في منطقة أريحا، حيث وجد قصر هشام، وحفرياته في تل الغسيل في لبنان واكتشافه لموقع جميرا في دبي.
(3) عالم آثار بريطاني، كبير مفتشي الآثار خلال حقبة الإنتداب البريطاني لفلسطين. تمّ تعيينه مديراً للآثار في فلسطين عام 1938، وشغل هذا المنصب رسمياً حتى عام 1948. توقفت مسيرته المهنية في الشرق الأدنى بسبب الحرب العالمية الثانية والتمرد اليهودي في فلسطين. أُجبر على مغادرة فلسطين مع إنشاء دولة “إسرائيل” في عام 1948.
- عن موقع صمود