في أهمية بناء مجتمع افتراضي فلسطيني
الجمعة 7/11/2025- معين الطاهر
بناء مجتمع افتراضي للفلسطيينين في أماكن وجودهم كلّها، فكرة راودت نشطاء ومثقّفين وأكاديميين ومهنيين من أبناء الجاليات، تعدّدت فيها الأسباب واختلفت المسمّيات، لكن الهدف كان واحداً، إيجاد مجتمعات افتراضية يتمكّن فيها الفلسطينيون من التعارف فيما بينهم، وتوحيد جهودهم، وتقديم المساعدة الممكنة لهم في أماكن إقامتهم، والتواصل مع أبناء مجتمعاتهم الأصلية، وخلق صيغ يمكنها تمثيلهم على مستوى كل جالية على حدة، أو على مستوى أبناء الوطن ككل، كما هي المبادرة الشجاعة للأستاذة في جامعة أوكسفورد كرمة النابلسي، وهدفت إلى إحصاء الفلسطينيين في العالم، وبذلت جهداً كبيراً ومقدّراً في هذا الاتجاه كي يتمكّن الفلسطينيون من اختيار ممثليهم بطريقة ديمقراطية، ومن ممارسة حقّهم في تقرير مصيرهم واختيار قياداتهم، فيما أسّس آخرون مجتمعات افتراضية ذات طابع مهني تجمع الفلسطينيين في مختلف الأماكن، مثل مجتمع العاملين في المجال التقني أو مجالات مهنية مختلفة. كذلك نجحت بعض الجاليات في بناء نموذج لمجتمع افتراضي فلسطيني. لعلّ المثال الأبرز هنا يتمثل بالجالية الفلسطينية في كندا. ويعرف الكاتب محاولات أخرى قام أصحابها بعمل الدراسات وبتسجيل مؤسّسات قانونية وبناء نماذج حاسوبية، لكنّهم لم يتمكّنوا من تجاوز الإطار الفردي، على الرغم من وجود محاولات متقدّمة، إلى الإطار الجماعي الشامل. وبقيت محاولاتهم ضمن دائرة التفكير والسعي من دون الوصول إلى تعميم نتائجها. تضاعفت هذه الجهود منذ “7 أكتوبر” (2023)، نظراً إلى عودة القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث، والتفاف الفلسطينيين حول قضيتهم، ومشاركتهم في الحراكات التي ملأت شوارع العالم بأسره، وانغماسهم فردياً وجماعياً في مبادرات لدعم أهلهم في الأرض المحتلّة في مواجهة حرب الإبادة الجماعية، في ظلّ تقاعس المؤسّسة الرسمية الفلسطينية، والعجز عن إعادة بناء منظمة التحرير أو تشكيل قيادة فلسطينية موحّدة.
ثمّة عشرة أجيال فلسطينية ولدت بعد النكبة الكبرى عام 1948. وازدادت أعداد الفلسطينيين في العالم من نحو 1.4 مليون نسمة عام 1948 إلى ما يقارب 15 مليون شخص، يعيش نصفهم تقريباً خارج الأرض المحتلّة، وبذلك يختلف الفلسطينيون عن شعوب العالم كلّهم، إذ تمتزج ذاكرتهم وتتداخل مع واقعهم في عدّة مجتمعات افتراضية. هناك المجتمع الأصلي، مسقط رأس الأب أو الجدّ. ثمّة من بقي فيه، وثمّة من هُجِّر منه، لكن الروابط ما بين أبنائه بقيت قائمة، وثمّة حاجة للمحافظة عليها وتعزيزها بما يكفل التعرّف إلى (والحفاظ على) الرواية. ويشكّل ذلك أيضاً باباً لدعم الصمود والتواصل بين أبناء المدينة أو المنطقة أو القرية التي تمتدّ جذورهم إليها، ليجعل المجتمع الفلسطيني مترابطاً ومتّصلاً في الوطن وفي الشتات. وهناك المجتمع الذي هاجر إليه اللاجئ، هو أو عائلته بعد النكبة، فمَن انتقل من يافا إلى غزّة أو الضفة الغربية أو الأردن أو لبنان وسورية، أصبح عضواً في مجتمع جديد تربّى ودرس وتزوّج وعمل به، وتربطه به وشائج كبرى. ومن ثمّ هناك مجتمع ثالث للفلسطيني، هو المجتمع الذي يقيم فيه الآن بعد موجات الهجرة المتلاحقة.
ومن حسن الطالع أن التقدّم التكنولوجي في عالم الاتصالات يتيح لكل فلسطيني عبر تطبيق متقدّم أن ينضمّ إلى مجتمعاته الافتراضية كلّها، محافظاً على جذوره، ومتواصلاً مع مجتمعه الحالي، ومشاركاً مع الكل الفلسطيني في المحافظة على هُويَّته وجذوره، ومدافعاً عن مصالحه، ومتمسّكاً بحقّ تمثيله وفق أسس ديمقراطية سليمة. في هذا المجتمع الافتراضي، يستطيع كل تجمّع أو جالية، أن تتكتّل، وأن نتخب ممثليها عبر انتخاب مباشر، وأن تتعرّف إلى مكامن ضعفها وقوتها وقدرتها على التأثير، وأن تقدّم خدمات ضمن حيّزها المكاني مثل الخدمات الاجتماعية والصحّية والقانونية والتعليمية والاقتصادية، وأن تؤسّس المنتديات الثقافية والفكرية، وأن تتحاور وتتناقش ضمن مجتمع تعدّدي وديمقراطي، وأن تقيم منظّماتها المهنية الفتي تتواصل مع مثيلاتها في البلدان الأخرى، وأن تساهم في دعم الصمود في داخل الوطن المحتلّ، كذلك يمكنها أن تفرض وجودها التمثيلي الديمقراطي للمشاركة في المؤسّسات والقرارات الفلسطينية، بما فيها إعادة بناء منظمة التحرير على أسس تعدّدية وديمقراطية.
المجتمع الافتراضي الفلسطيني، شأن المجتمع الفلسطيني الواقعي، تعدّدي تندمج فيه مختلف الاتجاهات والأفكار، ويحرص على مصالح مواطنيه، ويحافظ على تطلّعاتهم وثوابتهم وروايتهم التاريخية. لذا، عليه من حيث هو مجتمع افتراضي أن يوحّد أبناءه في الأهداف التي تشكّل ثوابتَ وطنية من دون الإغراق في السياسات التفصيلية، مكتفياً بالتزام السردية التاريخية، وحقّ الشعب الفلسطيني في وطنه وتمسّكه بحقَّي العودة وتقرير المصير؛ أي إن الفلسطينيين على اختلاف مشاربهم التنظيمية والفكرية لهم الحقّ في عضوية مجتمعهم الافتراضي، يتحاورون داخله في قضاياهم وهمومهم ومستقبلهم بشكل ديمقراطي. على هذا المجتمع أن يُبنى من الأسفل إلى الأعلى. ينضمّ إليه الأفراد وعائلاتهم بشكل طوعي، ويحصلون على هُويَّة افتراضية فلسطينية. وعندما يصبح العدد داخل كل بلد مناسباً، تُنتخب هياكله بشكل حرّ وديمقراطي. وبعدها، تُنتخب هيئته العامة من التجمّعات التي انتخبت هياكلها، وهي بدورها تنتخب هيئات الرقابة والحوكمة ومجلساً أعلى يتكفّل مهمات المتابعة والتنسيق بين المكوّنات المختلفة.
ليست هذه المبادرة من بنات أفكار الكاتب، ولعلّ جهده فيها ينحصر في قناعته واهتمامه بها، وسعيه إلى نقاش أفكارها وتطويرها مع المبادرين إليها والمهتمّين فيها. ولعلّ نجاحها يكمن في تحويلها مبادرةً جماعيةً لا يدّعي أيّ فرد أو فصيل أو تيار أو مؤتمر أو حراك أنه صاحبها، بل يتعاون الجميع لإنجاحها، وتحويلها كائناً يسعى في الأرض من أجل فلسطين وتحقيق العدالة فيها لشعبها.
هل لنا أن نتخيّل ماذا يمكن أن يفعله تجمّع ملايين الفلسطينيين المنتشرين في العالم كلّه؟ سواء على مستوى ما يمكن تقديمه لهم في مجتمعاتهم الحالية إذا اتّحدوا وتعاضدوا، وتأثيرهم في داخل المجتمعات والدول، بل وتأثيرهم في الوضع الفلسطيني كلّه. هل لنا أن نتعلّم ونستفيد من تجارب أعدائنا، وفي مقدّمتها تجربة الوكالة اليهودية، ولدينا من الإمكانات والعقول والتجارب والفرص ما يمكّن من تحويل هذا الأمل حقيقةً؟
- عن العربي الجديد