logo
من الهولوكوست إلى الإبادة في غزة: أوجه التشابه المنهجية
الأربعاء 17/09/2025
  • سامية عيسى

لطالما كان الهولوكوست، الذي يُعرف أيضا باسم “المحرقة” (Shoah) تذكيرا مؤلما بالقدرة البشرية على الوحشية المنظمة، حيث شهد العالم اضطهاد وقتل حوالي ستة ملايين يهودي أوروبي على يد النظام النازي الألماني وحلفائه والمتعاونين معه بين عامي 1933 و1945. إذ لم يكن الهولوكوست مجرد عمل عنف عشوائي، بل كان إبادة جماعية منهجية ترعاها الدولة، كما ترعى الدولة الإسرائيلية حاليا الإبادة الجماعية المتلفزة للفلسطينيين في غزة بكل فجاجة، غير آبهة بكل القوانين الدولية والاحتجاجات المناهضة لها عبر العالم، لاسيما تلك التي يقودها اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية وحتى في أوروبا.

اليوم، ومع تصاعد الأحداث في قطاع غزة، يجد العديد من المراقبين أنفسهم أمام تساؤلات مؤلمة حول أوجه التشابه المنهجية بين هذه الفظائع التاريخية والواقع المعاصر الذي يعيشه الفلسطينيون. هذه المقارنة لا تهدف إلى مساواة حدثين تاريخيين فريدين في سياقهما، بل إلى تحليل الأنماط المتكررة للاضطهاد المنهجي، والتجرد من الإنسانية والتهجير والعنف، الذي ترعاه الدولة، والذي يثير قلقا عميقا ويستدعي مساءلة دولية.

الجذور الأيديولوجية والتمييز المنهجي: تمهيد للإبادة
في الهولوكوست، كانت الأيديولوجيا النازية متجذرة في رؤية عالمية عنصرية متطرفة، حيث اعتبر النازيون البشرية مقسمة إلى “أجناس” متفوقة وأخرى أدنى، معتقدين أنّ الألمان “آريون” متفوقون، بينما اليهود “جنس طفيلي” خطير. هذه الأيديولوجيا أدت إلى قوانين تمييزية، مثل “قوانين نورمبرغ” عام 1935، التي جردت اليهود من مواطنتهم وعرفتهم عرقيا بـ”الجنس الطفيلي” – هم وغيرهم من الغجر وذوي الإعاقة. وتصاعد هذا التمييز إلى عنف منظم، كما حدث في “ليلة البلور” عام 1938، حيث دُمرت المعابد والممتلكات اليهودية وقُتل واعتقل الآلاف. في السياق الفلسطيني، يمكن تتبع التمهيد المنهجي لما يحدث في غزة إلى عام 1948، المعروف باسم عام “النكبة”، الذي شهد تهجير حوالي 726000 فلسطيني وتدمير قراهم، في عملية تطهير عرقي، وتهجير قسري، وتجريد من الممتلكات، وقتل جماعي في العديد من المجازر مثل مجزرة دير ياسين واللد وغيرها الكثير. هذه الأحداث أرست الأساس لسياسات التمييز المستمرة. وقد تعزز هذا التمييز بشكل قانوني مع إصدار “قانون الدولة القومية للشعب اليهودي” عام 2018، الذي نص على أنّ “أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي”، وأنّ “ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل حصرية للشعب اليهودي”، والذي تزامن مع صعود تيار الفاشية، الذي تزعمه بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، إسوة بصعود الحركة النازية أيام هتلر. هذا القانون، يمنح الأفضلية لليهود ويشجع على “تطوير الاستيطان اليهودي كقيمة قومية”، ويمثل إطارا قانونيا يرسخ التمييز المنهجي ضد الفلسطينيين، على غرار القوانين العنصرية النازية التي مهدت للهولوكوست.

تصاعد الاضطهاد وآليات السيطرة: العزل والتهجير
في الهولوكوست، كانت الغيتوات خطوة رئيسية في عملية الفصل الوحشي والاضطهاد، حيث أُجبر اليهود على العيش في مناطق مكتظة وغير صحية، اتسمت بالمجاعة وتفشي الأمراض والعنف التعسفي، ما أدى إلى وفاة مئات الآلاف. كما أنشأ النازيون معسكرات السخرة التي توفي فيها آلاف الأسرى من الإجهاد والجوع. في غزة، يتجلى هذا النمط من العزل والسيطرة في الحصار الشامل المفروض على القطاع منذ سنوات، الذي تفاقم بشكل مروّع بعد السابع من أكتوبر 2023 ليصبح سياسة تجويع متعمدة، مرورا بالتهجير القسري من الشمال خصوصا إلى جنوب القطاع، وحشرهم في مناطق مكتظة ومواصلة قصفهم وإحراقهم في خيامهم المهترئة. وقد حذرت منظمات دولية، بما في ذلك اليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي، منذ عدة أشهر، من خطر المجاعة الوشيك الذي يهدد الأطفال في جميع أنحاء غزة، حيث يواجه أكثر من 495000 شخص مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي الحاد. وقد سبق أن استهدف الطيران الإسرائيلي على مدار حرب الإبادة البنية التحتية للغذاء، مثل المخابز وطواحين الدقيق، ودمر الأراضي الزراعية بشكل ممنهج. وقد وصف خبراء الوضع بأنّه “واحدة من أسوأ حالات التجويع التي صنعها الإنسان في ما يقرب من قرن”، مع تقارير مفزعة عن أكل الفلسطينيين للعشب وعلف الحيوانات.

من «الحل النهائي» إلى «مصيدة الموت»

بلغ الاضطهاد النازي ذروته في “الحل النهائي للمسألة اليهودية في أوروبا”، وهو خطة للقتل الجماعي المنهجي لليهود، تم تنسيقها في مؤتمر وانسي عام 1942 في برلين، حيث اجتمع كبار رجالات الدولة الألمانية، وترأسه رينارد هنريش كبير مبعوثي هنريك هيملر رئيس القوات الخاصة – وممثلون كبارعن مكتب الأمن الألماني. وقد استخدمت وحدات القتل المتنقلة (أينزاتسغروبن) عمليات إطلاق النار الجماعي، بينما صُممت مراكز القتل مثل أوشفيتز- بيركناو لغرض الإبادة الجماعية باستخدام غرف الغاز.

في غزة، تتجلى أوجه التشابه المنهجية في الحروب المتكررة التي شنتها إسرائيل على القطاع منذ عام – 2008، مثل “الرصاص المصبوب” و”عمود السحاب” 2012 و”الجرف الصامد” (2014) و”حارس الأسوار” (2021) و”الفجر الصادق” (2022). وقد استخدمت إسرائيل في هذه الحروب “أسلحة غير تقليدية ضد الفلسطينيين العُزّل، كان أبرزها قنابل الفوسفور الأبيض، واليورانيوم المنضب”. وقد أدت هذه الحروب إلى سقوط آلاف الضحايا المدنيين وتدمير واسع النطاق، وصولا إلى تدمير أكثر من ثمانين في المئة من عمران غزة ومساكنها وبنيتها التحتية وجعلها منطقة غير قابلة للحياة في حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ أكتوبر عام 2023 وحتى هذه اللحظة. تتفاقم هذه الأوضاع مع محاولات التهجير القسري لسكان غزة، حيث أمر الجيش الإسرائيلي بعمليات إجلاء جماعية متكررة أدت إلى نزوح أكثر من مليون وتسعمئة ألف فلسطيني داخليا، ما يمثل أحد أكبر عمليات النزوح منذ عام 1948. وقد تعرض الفلسطينيون النازحون لهجمات إسرائيلية أثناء محاولتهم الإخلاء.

وفي سياق المساعدات الإنسانية، ظهرت “مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF)، وهي منظمة أمريكية غير ربحية تأسست بطريقة مريبة في فبراير 2025 لتوزيع المساعدات. ومع ذلك، واجهت هذه المؤسسة انتقادات شديدة من الأمم المتحدة ومنظمات إنسانية أخرى بتهمة “تسييس المساعدات” و”تحويلها إلى سلاح”. وقد وصفت مواقع التوزيع التابعة للمؤسسة بأنها “مصائد موت”، حيث قُتل فلسطينيون كانوا يسعون للحصول على الطعام بالقرب من مواقع المؤسسة، وما تزال عمليات القتل مستمرة. نُسبت هذه الهجمات إلى قوات الدفاع الإسرائيلية (IDF) والمتعاقدين مع المؤسسة. وقد وصف الناجون من هذه المواقع بأنّها “مصائد موت”، بينما وصفتها منظمة أطباء بلا حدود بأنّها “مذبحة تتنكر في هيئة مساعدة” و”قتل منظم”، في مواجهة هذه الوقائع، تقدمت حكومة جنوب أفريقيا في 29 ديسمبر 2023 بدعوى قضائية لدى محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، تتهمها فيها بانتهاك التزاماتها بموجب “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها” لعام 1948. استندتّ الدعوى إلى أنّ الأفعال الإسرائيلية، بما في ذلك القتل، والتسبب في أذى جسدي أو عقلي خطير، والتعمد في فرض ظروف معيشية تهدف إلى التدمير الجسدي الكلي، أو الجزئي، وفرض تدابير لمنع الولادات، والنقل القسري للأطفال، تندرج ضمن تعريف الإبادة الجماعية. وتؤكد الدعوى أنّ النية الإبادية يمكن استنتاجها من أفعال الجناة، فضلا عن تصريحات مُعلنة لمسؤولين إسرائيليين كبار.

المبادئ الدولية على المحك

إنّ أوجه التشابه المنهجية بين الهولوكوست والإبادة في غزة، من التمييز الأيديولوجي إلى العزل المنهجي والتهجير والقتل الجماعي، تثير قلقا عميقا عبر العالم أدت إلى يقظة عالمية واحتجاجات واسعة لوقف الإبادة. فبينما كان الهولوكوست حافزا لاعتماد اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإنّ ما يحدث في غزة اليوم يضع هذه المبادئ على المحك. إنّ فهم هذه الأنماط التاريخية ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل هو ضرورة أخلاقية لضمان عدم تكرار الفظائع، ولتعزيز المساءلة، ولحماية حقوق الإنسان للجميع، في كل مكان. إنّ دعوى جنوب افريقيا أمام محكمة العدل الدولية، خطوة حاسمة نحو تحقيق العدالة والمساءلة في مواجهة ما يعتبره الكثيرون جريمة إبادة جماعية مستمرة، بل هي دعوة لوقف الإبادة، وإنصاف الشعب الفلسطيني، وإنقاذ أهل غزة من المقتلة فورا.

 

  • عن القدس العربي

 

 

 

 

مشاركة