“أسد نابلس” يطارد حسين الشيخ إلى واشنطن
الإثنين 3/10/2022- لميس أندوني
في محاضرة ألقاها في إبريل/ نيسان الماضي، في مركز واشنطن للشرق الأدنى، وهو أهم معقل للصهيونية في العاصمة الأميركية، اعتبر وزير الحرب الإسرائيلي، بني غانتس، جنين من التحدّيات الاستراتيجية لإسرائيل؛ لبروزها معقل مقاومة متفجرا للاحتلال، لكنه أبدى ارتياحا مما كان يعتقده نجاحا لخطة السماح بضخَ أموال لتحسين النشاط الاستثماري في نابلس. ولكن نابلس، وجنين قبلها، أثبتتا خطأ الجنرال غانتس الذي يرفض حتى الاعتراف بحل الدولتين كمفهوم، حتى لو أنتج كيانا مسخا تحت السيطرة الإسرائيلية، ففكرة تحسين الوضع الاقتصادي بديلا لإنهاء الاحتلال، وهي مجرّبة وقديمة، تبدو ناجحة في بادئ الأمر، إلى أن يفاجأ الاحتلال بجيل مقاوم جديد، فقد بوغت بـ”خلية جنين”، كما أطلقت على نفسها مجموعة المقاومة في جنين، وبعدها باغتته نابلس بقوة خلية “عرين نابلس”، ليعقبها تمرّد المطاردين من جيش الاحتلال، واشتباكهم مع أجهزة السلطة قبل أسابيع.
صحيحٌ أنه جرى التوصل إلى اتفاق بين السلطة والمطاردين في نابلس، لكن القصة لا يمكن أن تمرّ إسرائيليا وأميركيا، ولا يمكننا أن نتوقع إلا مطالب أميركية صارمة خلال رحلة المسؤول الفلسطيني حسين الشيخ للقاء مسؤولين في الإدارة الأميركية، فبزوغ خلايا قوية في جنين، وبعد ذلك في نابس، ليست بعيدة في جذورها وصلاتها عن كتائب شهداء الأقصى، الذراع المسلح لحركة فتح، ليس مسألة هينة، وهو دليل على فشل التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل لوقف المقاومة ضد الاحتلال.
وزير الشؤون المدنية السابق، حسين الشيخ، معروف شخصيا للمسؤولين الإسرائيليين، ومن أقوى الشخصيات المرشّحة لخلافة الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، وهو محط انتقادات شديدة من داخل “فتح” وأوساط الشعب الفلسطيني، وأياً كانت مهمته، لا تراه واشنطن إلا بشكل رئيس وظيفة أمنية للسلطة الفلسطينية، وكل المساعدات مرتبطة بها، فحتى لو هاجم الرئيس الفلسطيني دور أميركا ورفع صورة الأسير الفلسطيني ناصر أبو حميد أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإن كانت حركته هذه تستفز واشنطن، ففي نهاية الأمر ما يهم هو التزام السلطة بمنع المقاومة ضد إسرائيل.
سواء انتبهت واشنطن أو لم تنتبه؛ فمنذ هبة أيار عام 2021، وأشكال المقاومة تتّسع، ولم يعد العمل المسلح مقصورا على ظواهر منفردة، وإنما من الواضح أن هناك خلايا تتجهّز وتتحرّك، وإنْ تحاول قوات الاحتلال القضاء على رموزها وقادتها، كما في حصار قائد “عرين نابلس” إبراهيم النابلسي، واغتياله في أغسطس/ آب الماضي. لكن النابلسي، وهو من قادة كتائب الأقصى، حوّل حصاره إلى رسالة صمود ومقاومة تعبوية، شحنت الفلسطينيين، حتى مَن هم في الخارج، بوصيته التي سجّلها قبل استشهاده “لا تتركوا البندقية”.
مِن الخرق البطولي الذي أحدثه الأسرى الستة في سبتمبر/ أيلول 2021، بالتحرّر من معتقلهم، حتى وإن أعيدوا إلى الزنازين، فهناك زخم ثوري مقاوم لا يستطيع أن يوقفه حسين الشيخ، إذا شاء، ولا الإدارة الأميركية ولا الجنرال غانتس، وهذا ما يجب أن يفهمه الشيخ؛ فتمرّد المطاردين في نابلس مسألة كبيرة، فالنابلسي كان مطارَدا، وللمطارَدين قيمة كبيرة في النضال الوطني الفلسطيني.
أعاد النابلسي، وكل مطارد اغتاله الجيش الإسرائيلي، وكذا استشهاد المقاومين الأربعة في جنين، ومنهم عبد الرحمن شقيق الشهيد رعد حازم الذي أرعب تل أبيب، كلهم أعادوا، ويعيدون، صورة المطارَد مُلهِما للشعب الفلسطيني، فالمطارَدون، كالفدائيين والمقاومين، جزء من القاموس المقاوم، دخلت قصصهم التراث الشعبي والتاريخ الشفوي والمكتوب، أخفتها فترات متقطعة الثقافة السياسية التي سادت بعد اتفاقية أوسلو عام 1993، وتعمّق في شرحها الأسير زكريا الزبيدي، في أطروحته التي نال عليها درجة الماجستير من خلف جدران الأسر، من جامعة بيرزيت.
لا ثورة وتحرّر من دون مطاردة من احتلال، وبالتالي: حكايات تنتقل من بيت إلى بيت، تؤجّج غضب الفلسطينيين، وتزيد اشتعالها كل عملية مطاردة معلنة وحصار واغتيال على شاشات التفزيون وشاشات الهواتف الذكية. وهذه عمليات التصفية، المؤلمة، لشباب فلسطينيين، كل هدفهم العيش بحرية، تجري أمام العالم، الذي لا يهتز إلا إذا كان هناك تهديد لإسرائيل، أو ما يقضّ مضاجع الإسرائيليين، لا يمكن إلا أن تكون المخابرات الأميركية والصهيونية تعي تداعيات ذلك كله، فقد طاردت المقاومة بعد النكبة منذ نشوئها. والانتفاضتان الفلسطينيتان، الأولى والثانية، وما بينهما وما لحقهما من مطاردات وأسر واغتيالات؛ هي حكايات مقاومة مستمرّة، تخاف تلك الأجهزة من تحوّلها إلى انتفاضة شاملة غير مسبوقة، تريد من السلطة إطفاءها في مهدها. ولكنها أيضا حكايات موجعة حتى النخاع، فتصفية الشباب الفلسطينيين غير المشروعة والإجرامية لا تقصُر على المقاومين، وإنما على كل أفراد الشعب الفلسطيني. واذا لم تفهم السلطة الفلسطينية وكل الأنظمة العربية، المطبّعة رسميا أو غير المطبعة علنا، أن جريمة التطهير العرقي ماثلة أمامهم، إذن عن ماذا يريد حسين الشيخ محادثة المسؤولين الأميركيين؟ فلا معنى لفتح قنصلية أميركية في القدس، والإدارة الأميركية تتشدّد، بل تساعد في تصفية الفلسطينيين وقضيتهم.
التسوية التي جرت في نابلس بين المطاردين وأجهزة السلطة، وإن حقنت مزيدا من الدماء، تُبرز في جوهرها التناقض بين دور السلطة الأمني والشعب الفلسطيني، بما في ذلك المقاومون داخل حركة فتح، وجعل أفراد الأجهزة الأمنية، ومنهم من كان أسيرا أو طريدا قبل فترة وجيزة أو بعيدة، أدوات للاحتلال، وإذا كان ذلك ليس مفجعا، وأحمّل قيادة فتح كامل المسؤولية عن ذلك، فاسألوا والد أي شهيد في الأجهزة الأمنية الفلسطينية، فلمن لا يعرف؛ والد الشهيد إبراهيم النابلسي كان عقيدا سابقا في الأمن الوقائي الفلسطيني، ولمن لا يعرف أيضا، فإن أسرى عديدين اختطفتهم إسرائيل خلال الانتفاضة الثانية هم من أقدر رجال الأمن الفلسطيني من مختلف الرتب… إذا كانت السلطة تعتقد أنها سيطرت على الوضع، وهذه استثناءات هنا وهناك، فهي مخطئة، فتهميش معارضة سياسات السلطة داخل حركة فتح جدّد من إرادة فتح بالتمسّك بالمقاومة، وكل يوم يحلّق فجأة جيل من المقاومين، والسلطة تعتقد أن كل شيء تحت السيطرة.
لا أمل بتغيير في سياسات السلطة، ولكن أن تأخذ السلطة ما يبدو لها أنه “استكانة الفلسطيني”، وتستمرّ في نهجها؛ فهذا مشين، وإن كان غير مفاجئ، فما تعتقد السلطة أنه “استكانة” ليس القمع سببه فقط، أو الخوف من انهيار الوضع الاقتصادي، وإنما هو خوف الفلسطينيين من شلال الدم، ومن حرب داخلية .. مناسبة هذا الكلام ما يحدث كل يوم، وكذلك زيارة حسين الشيخ إلى واشنطن.
منذ عقود، وليس فقط منذ اتفاقية أوسلو، منذ مبادرة الرئيس الأميركي السابق، رونالد ريغان، عام 1982، يحاول الأميركيون تخدير الفلسطينيين بالرفاه الاقتصادي، من دون أن يأتي، وليست هذه هي المشكلة، لكن نكبة الفلسطينيين المستمرّة تعني مقاومة مستمرّة، وهذا ما لا يريد الأميركيون والإسرائيليون أن يفهموه، لكن شبح كل مطارَد وأسير وشهيد هو الحاضر الأقوى في اجتماعات واشنطن، حتى لو كان غير مرئي أو محسوس؛ فلوصيّة أسد نابلس، إبراهيم النابلسي، وقع أقوى من كل اتفاقياتهم.
- عن العربي الجديد