logo
حيث زعيتر وأبو شرار
الجمعة 1/03/2024

·       د. رشا سلامة

فيما أمضي بين أزقة روما وميادينها التاريخية، يتراءى أمام عينيّ وجهان فلسطينييان ارتبط مصيرهما بهذه المدينة: وائل زعيتر وماجد أبو شرار. أراهما يغذّان الخطا في هذه الأزقة، فيما هما يرتديان ملابس دافئة في أكتوبر، الذي قُضيا خلاله اغتيالاً، في عامين مختلفين، في قلب هذه المدينة الأوروبية.

حين كانت الدبلوماسية الفلسطينية في عهدها الذهبي، كان زعيتر ممثلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية في روما، يتحدث باسمها ويقيم العلاقات الدبلوماسية وينشر الوعي حول معاناة شعبه. وفي غمرة هذا، كان شابا يحب الحياة، ويحتفي بها. لم يخدم القضية الفلسطينية فحسب خلال وجوده هناك، بل الشرق كذلك؛ لإمساكه بتلابيب لغات عدة. كان منكبا على ترجمة فصول من “ألف ليلة وليلة” لجمهور مقهى إيطالي في روما، حين تتبعه عملاء الموساد هناك، فاغتالوه على باب شقته، فيما هو يحتضن النص الذي كان يقرأ عنه للجمهور. ما تزال زوجة زعيتر الإيطالية تحتفظ بتلك النسخة المخترقة بالرصاص، حتى اليوم.
أبو شرار، كان في زيارة إلى روما، ممثلا عن الأدباء الفلسطينيين، حين زرع عملاء الموساد المتفجرات في فرشة غرفته في أحد فنادق روما، فقضى تاركا خلفه ثلاثة أبناء، وإرثا أدبيا وإعلاميا وسياسيا.

حتى اللحظة،  لم يحاسب أحد القتلة، الذين أكملوا سلسلة الاغتيالات في عواصم أوروبية أخرى، فأفقدوا الفلسطينيين خيرة الشباب، علما وحضورا ودراية بلغات البلاد التي حلوا عليها.
خفت بريق الأداء الدبلوماسي لدى منظمة التحرير الفلسطينية، وما عاد هنالك ذاك الحضور الطاغي لممثلي المنظمة إعلاميا وسياسيا وثقافيا. لا يكاد يعلق في ذاكرتي في الآونة الأخيرة سوى حسام زملط في بريطانيا، وعبدالله العطاري في قبرص؛ لما يمتلكانه من أدوات قوية على رأسها اللغة، والجرأة في الحديث، والتعامل بمنطق الندية مع العالم الغربي لا منطق الاستعطاف.
في ظل تراجع الخطاب الفلسطيني الرسمي، الغزيّون وحدهم الآن من يقدمون الرسالة نيابة عن الشعب الفلسطيني بأسره. لعل الأكثر إيلاما هو أنهم يقدمون هذا الخطاب بدماء وأشلاء ويتم وثكل وجوع.

المدنيون وحدهم العزّل في غزة من يترافعون اليوم باسم الشعب الفلسطيني جميعه، بعيداً عن الحسابات الضيقة كلها من فصائلية وتقسيمات جغرافية.

سائق التاكسي في روما، غيّر نبرته تماما حين سمع كلمة “بالستينا” خلال الطريق إلى أمسية الأوبرا. قبل أن يعيد إمساك مقود السيارة، ضمّ كفيه أدنى ذقنه وأخفض رأسه احتراما.
نادلة المقهى، قرب السلالم الإسبانية في قلب روما، ودعتنا باكية ونحن نغادر المكان، بعد أن تجاذبت معنا أطراف الحديث حول ما يحدث في فلسطين. شدّت على أكفّنا بحرارة، متمنية أن نعود لزيارة روما وبلادنا بحال أفضل مما هي عليه.
للشهداء السالفين جميعاً، للفارسين المغوارين في روما زعيتر وأبو شرار، وللشهداء الذين نراهم يقضون على الهواء مباشرة اليوم، المجد والخلود.

 

  • عن صحيفة الغد
مشاركة