logo
ستربتيز فرانكفوني على شواطئ غزة
الأحد 31/12/2023
  • جهاد الرنتيسي

ظلت اسئلة “خفة الكاتب” و”الاستخفاف بالقارئ” على حالها، سطحية لا تنفذ الى العمق، لكنها لا تفقد حظوظها في اعادة الطرح، مع تزايد مظاهر استقواء الافراز الفرانكفوني على القراء العرب في اللحظات الحرجة من مواجهة حضارية تتغير اشكالها بين الحين والآخر.

قد يتجاوز الجدل الذي اثاره الروائي الطاهر بن جلون بعد تصريحاته حول اوضاع غزة هذه المناخات، لكنه لا يبتعد كثيرا، مع غياب مناخات الانتقال الى البحث عن جذور وآثار الظاهرة.

اعتاد بن جلون على اتخاذ مواقف معادية للقضايا العربية، مما يقلل من دوافع الدهشة، ويعيد ردود الفعل الصاخبة على مقالته المنشورة في “لوبوان” الفرنسية الى فجاجته، التي وصلت الى حد استخدام مصطلحات وزير الحرب الاسرائيلي التي تشبّه المقاوم الفلسطيني بالحيوان البشري.

السياقات التي جاءت فيها المقالة اوسع من ذلك بكثير، فقد اعقبت جدلا اقل صخبا اثاره انتخاب الروائي امين معلوف امينا عاما للأكاديمية الفرنسية، انقسم فيه المتجادلون بين مروّج للخطوة باعتبارها اعترافا فرنسيا بثقافات الشرق، ومذكّر بتاريخ حافل بالتنازلات والتذيّل للآخر الصهيوني والغربي، ظهرت بداياتها مع زيارته لمستعمرة كريات شمونة بناء على طلب من الرئيس اللبناني الاسبق امين الجميل قبل اسقاط الحركة الوطنية اللبنانية اتفاق 17 ايار، ومرورا برواية “سلالم الشرق” التي تسوق الطروحات الصهيونية والظهور على شاشة التلفزيون الاسرائيلي  في العام 2016.

هناك امثلة على افرازات اقل جرأة، لكنها تبقى لافتة للنظر، كما هو حال الروائي الحبيب السالمي، الضيف الدائم في مؤتمرات رام الله، الذي تفنن في اظهار الفلسطيني شاذا جنسيا، وامعن في تشويه صورة مجتمعه التونسي بحجة اظهار تناقضاته الداخلية.

لا يبتعد الروائي واسيني الاعرج المحتفى به دائما في عمان عن هذه السياقات، فقد تسارعت وتيرة وقوعه في المطبات، بدء من اسقاط ظروف تعلمه اللغة الفرنسية على الظروف التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الصهيوني دون مراعاة اختلافات التفاصيل ـ توطئة لدعوة الفلسطينيين الى تعلم اللغة العبرية ـ ومرورا باشارته الى “الرجل العربي لا يعرف الحب” مستندا الى التحرشات التي تتعرض لها النساء، ورفض الرجل العربي تعلق المرأة برجل آخر، دون التفات الى البعد الغريزي لهذه الممارسات الأقرب الى ردود الفعل الاولية، وارتفاع نسبها في المجتمعات الغربية الى ما يفوق ما يحدث في البلاد العربية.

رغم انفعاليتها في بعض الاحيان، استحيائها في احيان اخرى، عدم امتلاك اصحابها ادوات النقد، او القدرة على تجاوز قشرة القضية المطروحة للبحث والنقاش تمكنت الردود على هذه المواقف من ملامسة الارضية التي يقف عليها هؤلاء في كتاباتهم وتصريحاتهم حول قضايانا ومجتمعاتنا.

ابرز النقاط التي يمكن التوقف عندها انبهار هؤلاء بفقاعات آخر يشعرهم العيش معه بالدونية، ومع تأثيرات الهشاشة التي تضعهم فيها هذه المعادلة يعجزون عن الاحتفاظ بذاكرة غير مثقلة بالتشوهات، او تكوين رؤية خاصة بهم.

لا تقل غربتهم عن مجتمعاتهم العربية اهمية عن حالة الانبهار التي يعيشونها، الامر الذي يفسر التقاء واسيني الاعرج والحبيب السالمي في الاستخفاف بقابلية العربي للحب رغم ارثه من قصائد العشق، تبني معلوف للرؤية الصهيونية، وسوداوية رؤية بن جلون للمقاوم للعربي الذي يحوله رفضه للبقاء في الموضع الذي يريده الآخر الصهيوني والغربي الى حيوان بشري متجاوز لشروط التحضر المحددة سلفا دون اي اعتبار للاختلافات الثقافية والحضارية.

لازدواجية الغربة والانبهار بالفقاعات تبعاتها على طرق التفكير، تشكل الادوات، ومن ثم عملية الابداع، قد تتوفر لهؤلاء امكانية الاستفادة من تقنيات الرواية الغربية اكثر من غيرهم بحكم الاحتكاك المباشر، لكن المحتوى يخضع لتشوهات المفاهيم، وضحالة القدرة على فهم الذات والآخر.

يختلف الامر بعض الشيء عند افتراض سوء النوايا، وأخذ خضوع هندسة الرواية لشروط الجوائز المحكومة دائما بمعايير الآخر الغربي في عين الاعتبار، بدء بتحقير ثقافة الشرق ومرورا بالترويج للشذوذ الجنسي، مما يضع الافراز العربي للوعي الفرانكفوني في اطار حوار الغرب مع ذاته، وربما محاولة اقناع الشرق بصورته في الذهنية الاستعمارية.

تمكنت اعادة انتاج الاستشراق من ابهار القارئ العربي في ظروف معينة، رغم المقاومة التي قوبلت بها من تيارات فكرية مختلفة، لكنها تتكشف مع سفور تماديها، واستفزازيتها عند منعطفات تستنفر الوعي، مثل المنعطف الراهن في غزة، مما يفقدها صلاحيتها للاستهلاك الشرقي.

  • عن جريدة الجماهير الأردنية

 

مشاركة