logo
لبس لـ “شبابيك”: الأغاني الشعبية الهوية الحقيقية لأي شعب
الأحد 9/09/2018

صيدا ـ شبابيك ـ إيمان جمال الرفاعي

تعمل الباحثة في التراث الغنائي الفلسطيني نائلة لبس جاهدة لإحياء الموروث الفني للأجيال الفلسطينية المتعاقبة، آخذة في الإعتبار موقعه في بناء الهوية، وبعده الروحي.

نشاطها الدائم ومساهماتها المتعددة الأشكال حولاها إلى أحد أركان البحث التي لا يمكن تجاوزها.

حول تجربتها في جمع التراث الغنائي وإحيائه وفهمها لأهميته حاورها “شبابيك” وكان هذا اللقاء:

* ما هو تعريفك للفلكلور الفلسطيني؟ وما أهم ما يميزه عن التراث الغنائي العربي؟

ـ هنالك نوعان من الغناء الفلكلوري الفلسطيني، الأول ما غنّى الرجل، والثاني ما غنت المرأه وهذا الجانب هو مجال تخصصي، ويأتي إختلاف الغناء لسببين: الأول هو التقاليد الإجتماعية التي تفصل دائما بين التجمع الرجالي والنسائي والثاني إختلاف إهتمامات الرجال عما تهتم به النساء.

في تعريفنا للفلكلور نقول بأنه يقع تحت تأثير البيئة المحيطة به، وهو “تاريخ وجغرافيا” ومن هذا الباب نقول بأن الجغرافيا “الشامية” هي المؤثر الأهم في تكوين الأغاني، خاصة النسائية منها. إذ نلاحظ أن أنماط الغناء الفلسطيني شبه متطابقة مع الغناء في منطقة بر الشام آخذين بعين الإعتبار إختلاف اللهجة والعقيدة الدينيه.

* لا بد أن هناك حالة من إغتراب أو إبتعاد الفلسطيني عن تراثه ساهمت فيها الظروف غير العادية التي يعيشها بسبب الإحتلال والشتات، إلى أي حد كانت هذه المسألة ماثلة في ذهنك وأنت تتجهين للبحث؟

ـ هذا يندرج تحت تعريف “التاريخ والجغرافيا” حيث نقرأ في الأغاني النسائية عن المناطق الجغرافية التي تغني منها ولها المرأه، وتاريخ تلك الفئة من الاغاني، تحضرني هذه المهاهاه مثلاً:

يا بيّ فلان ويا سورنا العالي

يا رزّ عكا وكل الناس تشتاريه

اجا الشاري تا يشتري لاقى السعر غالي

قال يا حسرتي ويا ضيمة عيالي

أو نغني لنفس البلد هذه المردودة:

مرحبا يا رز من عكا

واللي جاب الرزّ من عكا

وذلك لتأثير عكا وسور عكا على المرأة الفلسطينية حيث كان ميناء عكا هو الميناء الرئيسي قبل النكبة، وفيه ترسو السفن المحملة بالبضائع (الرزّ) او كونه يستقبل مراكب العائدين للوطن.

وموضوع آخر أثر على الغناء النسائي خصوصا بعد النكبة هو ما نعرّفه بالتهاليل “أغانينا للأطفال كي نجلب لعيونهم النوم” التي هي أقرب للبكائيات حيث تقول احدى هذه التهاليل:

من طول غيباتكو شابت صبايانا

وصرنا لجايا من كانوا لجايانا…

هذه هي أهم صفات ومقومات الفلكلور الغنائي النسائي الفلسطيني، وهو ما يميزه عن الغناء العربي المحيط. أعني القضية الأساسية وهي التهجير ومع شديد الأسف لا بد أن نلاحظ أن الكثير من الشعوب العربية إشتركت مؤخرا مع الفلسطينيين في موضوع الهجرة والتهجير.

* كيف كانت بدايات إهتمامك بدراسة التراث الشعبي الفلسطيني؟

ـ يمكن تقسيم الاجابة على السؤال لمرحلتين فارقتين في حياتي العائلية والمهنية، ففي حياتي العائلية، وبعد نزوح عائلتي الصغيره من حيفا إلى الناصرة حيث كنت جنينا، وكانت قد ولدت للعائلة شقيقتي الكبرى، وولد بعدي أحد اخوتي، حكم على

بالعيش في كنف عائلة جدي لوالدتي التي كانت تسكن في قرية بجانب الناصرة تدعى “يافة الناصرة” وهناك تعرفت على نمط الحياة الفلاحية وإستمعت إلى الأغاني الشعبية التي رسخ معظمها في أعماق عقلي ومن الناحية المهنيّة عملت مدرسة للموسيقى في قرية تدعى “عين ماهل” المعروفة بشغفها بالغناء الشعبي.

في العام 1984 أقمت أسبوعا للتراث الشعبي في المدرسة الشاملة حيث عملت، وأخذت أجمع الأغاني من سيدات القرية تحضيرا للأسبوع، وعندها إكتشفت كم أحفظ من تلك الأغاني.

عند إنتهاء الفعالية رحت أقرأ وأدقق في الأغاني ومواضيعها، وأدهشني ما إكتشفت من كنوز تحكي نمط حياة الشعب ليس فقط في تلك القرية إنما في مختلف القرى العربية.

من هناك أخذت على عاتقي تكريس ما أملك من إمكانيات لجمع وتوثيق تلك الأغاني، والسعي وراء دراستها وتبويبها ومن ثم نشرها…

* ما هي العقبات التي إعترضت جهودك خلال عملية البحث وإلى أي مدى نستطيع القول بأنك راضية عن الإنجازات التي حققتيها في هذا المجال؟

ـ عن العقبات حدث ولا حرج، أول وأصعب العقبات التي وقفت كالسد المنيع أمام مشواري كانت عدم قناعة المحيطين بي بهذه المهمة، سمعتها مرارا وتكرارا “إنك تسعين لإستعادة العظام وهي رميم”، ولا مجال للشرح كم هو مهم الدعم لمن ستخوض هذه المعركة، خاصة وأني “زوجة شرقية” وعاملة، وأم لثلاثة أبناء، وبالكاد تكفينا رواتبنا للقيام بمتطلبات البيت والأولاد، لكني ولشدة قناعتي بالموضوع تخطيت كل تلك العقبات وسواها في سبيل إنجاز ما قد أنجزت.

طبعا أنا راضية عما قمت به ولكن هذا لا يعني أنني راضية عن عزوف المؤسسات والدوائر الرسمية التي بيدها القوه المادية والمعنوية والقناعة في مواصلة المشوار، مهما كنت ومهما كان جهدي كبيرا يحتاج الموضوع للمتابعة، تراثنا الغنائي النسائي نبع لا ينضب، و قدرتي محدوده، خاصة أنني بلغت من العمر – تقريبا- أرذله.

* ما الذي تشعرين بانك لم تحققيه بعد وتحاولين الوصول إليه من خلال جهودك في هذا المجال؟

ـ لا حدود لطموحي في مجال البحث والنتقيب عن كنوزنا الشعبية، دائما أقول بأنني “في حالة بحث” مستمر وكان بودي أن اخوض مجال البحث التاريخي كي أقف على مصادر تلك الأغاني لكني إكتفيت بمسار البحث الوظيفي لأننا محاطون

بممنوعات السفر والتنقل بين بلداننا العربية والوصول للمخيمات حيث الكنز الحقيقي.

نتيجة لهذه الحالة لا اتطلع لأكثر من جمع ما تبقى من أغاني مختلف المناسبات وهي مادة غزيرة جدا لم أستطع الوصول إليها رغم تجوالي الطويل في تجمعاتنا الشعبية.

* ما هي أبرز الإختلافات التي وجدتيها في الأغنيات بين القرى والمدن الفلسطينينة وبين مناطق الشمال والجنوب؟

ـ أبرز الإختلافات التي وجدتها بين الشمال والجنوب هي أولا وقبل كل شيئ اللهجه وأسلوب الحياة الذي يؤثر على تعامل هذه الفئة أو تلك والتي تظهر في الأغاني النسائية، الإختلاف بين القرى والمدن كثيرة ومتعدده، أهمها أن اللحن في الأغنية الفلاحية ساذج وبسيط، وبالتعبير الموسيقي لا يتجاوز “المازورتين” أو ثلاثه، والمازوره هي الجمل اللحنية للأغنية التي تعود على ذاتها في جميع أبيات الأغنية مهما كثرت تلك الأبيات.

من ناحية أخرى تتكون الأغنية المدينية من “لازمه” و “أبيات” أي أننا نعود على اللازمة بعد كل بيت ولا نجد ذلك في الأغاني الفلاحية.

الفارق الآخر بين النمطين يكمن في المواضيع المطروحة التي يتناولها كل من الأغنيتين، الأغنية الفلاحية مستوحاة من الحياة الفلاحية وأماكن تواجد المرأه والأعمال التي تقوم بها والأدوات التي تستخدمها الخ الأمر الذي يحدث فارقا بينها وبين الأغنية المدينية.

* لك تجربة مهمة في العمل على إيصال هذا التراث للأجيال الصغيرة إلى أي حد تجاوبت هذه الاجيال مع أغاني أسلافها؟

ـ اذا كان المقصود بالأجيال الشابة في القرى، والتي لا زالت تقام فيها الأعراس الشعبية ما زال لتلك الأغاني وهجها وجمهورها الذي يتفاعل معها من مختلف الأجيال وفي المدن يتجاوبون ويتفاعلون إلى حد ما مع ما يسمعونه من أغانٍ إذا عرفنا كيف نقدم لهم هذه الأغاني وأحسنا طريقة عرضها وإيصالها إليهم.

عندما أزور المدارس في المرحلة الإعدادية والثانوية وأطلب من الطلاب “الردّ” عليّ يشاركون بشكل جيد، علما بأنهم لا يحفظون تلك الأغاني. بينما الأطفال مغيّبون عن الموضوع بشكل كبير، مما دفعني لتأليف مجموعة من الأغنيات التي تحمل في طيّاتها بعض التعابير المستعملة في الأغاني وأقدمها بلحن حديث كي

أقربها أو ألائمها مع عالمهم المختلف جدا عن عالم الشباب والأمهات وطبعا الجدات، وأصدرت كتابا بعنوان “قريمشه يا قريمشه” ضمنته مجموعه أغنيات من تأليفي وتلحين شقيقتي معلمة الموسيقى في كلية القاسمي.

خلاصة القول أولادنا في طريقهم لنسيان هذا الموروث نظرا لعزوف الأهل عن إقامة الأعراس التقليدية التي تركز على الأغاني الشعبية.

* توثيق التراث بما في ذلك الاغاني بحاجة إلى عمل مؤسسي برأيك وعلى ضوء تجربتك ما هي إمكانية الوصول إلى المأسسة؟

ـ مأسسة الموضوع تحتاج إلى قطبين رئيسيين، جهة رسمية أو شعبية تدعم مثل هذه المؤسسات، وهذا الأمر ليس في حساب أي جهة، مع العلم أنه توجد بعض المحاولات المتواضعه، والقطب الآخر هم المهتمون والمؤمنون لدرجة “الجنون” بالعمل في إطار مؤسساتي غير ربحي، لأن التطوع أو شبه التطوع هو عامل مهم لإنجاح هذا المشروع.

* أنجزت ثلاثة كتب إضافة لأقراص مدمجة هل تفكرين بجديد في هذا المجال؟

ـ كنت قد ذكرت بأنني في حالة جمع، أي أنني لا أزال أجمع الأغاني كي أقوم بنشر ما لم يُنشر منها، مشروعي القادم يعتمد على أرشيف الوالد رحمه الله الذي كان مصورا مرموقا في الناصرة، ولدينا صورا هائلة لعرسان.

يقوم المشروع المشار إليه على عرض مجموعة أو نماذج من الصور الفوتوغرافية للعرائس بين سنوات خمسينات وتسعينات القرن الماضي، وتبيان المتغيرات التي طرأت على شكل العروس وثيابها وغطاء الرأس وكمية القطع الذهبية التي كانت تتحلّى بها وغير ذلك من تفاصيل، أضف إلى ذلك نشر مجموعه من الأغنيات التي تخص كل قطعة من لباس العروس وزينتها، مثل أغنية لفستان العروس وواحده لتاجها وأخرى للذهب الذي تتزين به وغير ذلك…

* ما هي أهم المواقف التي أثرت فيكِ خلال مسيرة بحثك في عالم الفلوكلور الفلسطيني؟

ـ من أهم المواقف التي واجهتها، كانت لدى زيارتي لأحد بيوت المسنين، في مناسبة عيد الأم، وكان من بين المسنين واحدة غابت عن وعيها منذ زمن، وهي لا تتجاوب مع من حولها أي في حالة غياب تام عن محيطها وحتى أولادها، كانت زيارتي لأقدم للنزلاء شرحا وعرضا لأغانينا الشعبية، ما أن بدأت في الغناء شاركتني تلك السيدة مما إستدعى الطاقم الطبي التابع للدار للتجمهر حولها ومراقبة

تفاعلها، سيدة أخرى كانت مربوطه بالأسلاك المساعده لها على التنفس ولتنظيم دقات القلب، ما إن سمعت ما أغني حتى بدأت عيناها في ذرف الدموع لأنها لا تقوى على الحركة أو الكلام.

مثل هذه المواقف تدفعني بقوه للمضي في مسيرتي التي لم يساعدني فيها أحد، لدي قناعة شديدة بأن الأغاني الشعبية هي الهوية الحقيقية لأي شعب، خاصة لشعبنا الفلسطيني الذي يدور في دوامة العنف والقهر وضياع الهوية.

مشاركة