logo
لماذا جنين؟
الإثنين 10/07/2023
  • لميس أندوني

في محاضرة له في واشنطن، في 11 إبريل/ نيسان 2022، صنف وزير الجيش الإسرائيلي السابق، بني غانتس، مخيم جنين أحد أهم التحدّيات الاستراتيجية التي تواجه إسرائيل، إذ أدركت المؤسّسة الإسرائيلية أن هذا المخيم يتحوّل من بؤرة إلى قلعة للمقاومة الفلسطينية، وإنهاء نموذج قد ينشر في سائر أنحاء فلسطين.

لم يتغيّر هذا التقييم لخطر مخيّم جنين على إسرائيل مع تغيير الحكومة الإسرائيلية، بل زاد الحقد على جنين، بعد أن أعطى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سلطة كاملة للتحكّم بالضفة الغربية المحتلة لاثنين من قيادات المستوطنين، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وإطلاق العنان للمستوطنين في ارتكاب المجازر والبدء في عمليات تهجير للشعب الفلسطيني.

لكن العملية العسكرية غير المسبوقة منذ معركة جنين خلال الانتفاضة الثانية ليست مسألة إسرائيلية بحتة، بل استنتجت واشنطن، وبالرغم من خلافها مع تل أبيب، بشأن تسارع البناء الاستيطاني وشراسة هجمات المستوطنين على السكان الفلسطينيين، أنّ “احتواء” المقاومة في جنين أصبح ضرورياً لتوسيع معاهدة الاتفاق الإبراهيمي الذي كانت بدايته مع الإمارات، ثم شمل البحرين والمغرب، لضمّ السعودية، وهو هدفٌ، بل شرط، إسرائيلي – سعودي للدفع “بدمج إسرائيل في المنطقة”، وإنهاء القضية الفلسطينية مكوّنا للخطاب الرسمي والوعي الشعبي العربي.

يتبيّن أنّ أميركا التي لا تملّ في استعجال لإدخال السعودية في الاتفاقيات الإبراهيمية، إدراكاً منها صفة المملكة أرض الحرمين الشريفين في مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة، مع المخاوف من رفض شعبي سعودي، غيّرت رأيها بعد نجاح الوساطة الصينية بين الرياض وطهران، وبعد أن فشلت القمم الأمنية في شرم الشيخ والعقبة في إقناع إسرائيل بلجم السلطة وقدرتها على “احتواء” مجموعات المقاومة الفلسطينية، وخصوصا في جنين. أي أن هناك توافقا إسرائيليا أميركيا على ضرب المقاومة الفلسطينية، من خلال هجوم عسكري “يصطاد المقاومين”، ويروّع السكان، لمنعهم من حضانة المقاومة الفلسطينية، فالترهيب والتهجير والضرب من دون هوادةٍ هدف إلى تفكيك “الحاضنة الشعبية للمقاومة”، خصوصاً أنّها ليست حصراً في جنين، فالمجموعات المقاومة الجديدة، وإن جاءت من محيط التنظيمات التاريخية وبيئتها نجحت في بناء “حاضنة شعبية” والاعتماد عليها، لتأمين تطوّرها وانتشارها وتأمين امتداد وحماية في محيطها.

لذا، شكّلت الهجمة الإسرائيلية إنذارا قاسيا ومتوحشا وواضحا لأهل مخيم جنين، وإلى كل الفلسطينيين، أنها ستنتقم مِمَن يحمي المقاومة، والثاني، وهو الأخطر، هو التذكير بالتهجير خلال النكبة وعدوان 1967، أي أن المشروع الصهيوني مستمرّ، وبتسارع أكثر من أي وقت مضى من عامي 1948 و1967، بتأييد من واشنطن التي أعطت غطاءً للعملية بترديد ادّعائها المتكرّر أن لإسرائيل “حقّ الدفاع عن النفس”، فلا يهمها تهجير أربعة آلاف فلسطيني من المخيم، في مشهد هو إعادة مريرة لشريط النكبة، وهذا مؤشّر خطير، على أن أهداف الاستراتيجية الأميركية الإقليمية والدولية قد ترضى بتهجير بطيء للفلسطينيين، حتى لو لم يكن التهجير هدفا أميركيا.

دلّت الحملة العسكرية الإسرائيلية أيضا على فشل إسرائيل في تفكيك المجموعات المقاومة، بالرغم من الاختراقات الأمنية واغتيال عدد من قادتها، فهذه المجموعات، وفي طليعتها “كتيبة جنين”، لا تعمل بالطريقة التقليدية، ولا تعتمد على قيادة مركزية، بمعنى إصدار الأوامر بل تتركها للمقاتلين لاختيار اللحظة والوسائل، ففشلت الاستخبارات الإسرائيلية في قطع التواصل بينها، وإن كانت وسائل تذكّر بوحدات مقاومة النازية في أوروبا، فالسكان، وأهل المخيم يصبحون جزءاً من شبكة التواصل، وهذه قوة “الحاضنة الشعبية” التي سعت إسرائيل إلى ضربها.

العملية الإسرائيلية، باعتراف المحلّلين الإسرائيليين، لم تنجح، بل بالعكس أسّست لجيل مقاوم جديد من أطفال وشبيبة وجدت نفسها تعيش كابوسا مصغّرا لما سمعته من عائلاتها عن قصص الترهيب والترويع، فهم أبناء اللاجئين، الذين تربّوا على روايات فقدان بيوت وحياة، رواياتٍ لم تعد حديث ذاكرات الجدّات، وحنين الأجداد إلى بساتين البرتقال والبحر، وهواء الجليل، ولكنها أصبحت رواياتٍ جديدة، ووقودا لنفس مقاوم. بل إذا كان الهدف هو وأد المقاومة، بأشكالها الجديدة، فمن المبكّر على الإسرائيليين أن يحتفلوا، خصوصاً أنّ وسائل الاتصال الاجتماعي، وشرائط الفيديو والصور تساهم في تقصّي الفترة الزمنية، في عملية انضمام مقاومين جدد، فما لا يفهمه الإسرائيليون أن جزءا من قوة جنين هو تاريخها المقاوم، فملحمة جنين وأسماء أبطالها في عام 2002، حاضرة، فالأسير زكريا الزبيدي أحد أبطال معركة جنين حاضر في حياة المخيم، خصوصا أنه أصبح رمزا متجدّدا، بعد هروبه عام 2021 هو ورفاقه الستة من المعتقل، ولو لأيام، في تحدٍّ لجبروت المؤسّسة الصهيونية. ولم يغب هذا عن تفكير الجيش الإسرائيلي الذي تطارده أشباح تصدّت له في عام 2002، فيجد مواجهة جيل مقاوم جديد، وكأنه عادة ينتقم، فاستهدف مسرح الحرية الذي ارتبط باسم زكريا الزبيدي وأطفالا وفر لهم المسرح أفقا خارج فضاء المخيم المحدود، فتخرّج منه مقاومون أصبحوا أسطورة تلهم أطفال المخيم، فاختار الجيش الإسرائيلي تهديمه أملاً في قتل روح مقاومة ترعب دباباته وجنرالاته، فالثقافة تلد وعيا تحرّريا، مستمرا وباقيا في أروقة مخيم جنين.

لا ترى أميركا في مخيم جنين إلا بؤرة إزعاج يجب إسكاتها. إنها تحذّر من هجمات المستوطنين التي قد تعرقل عملية التطبيع العربية الإسرائيلية، لكنها تجد الحل في انقضاض عسكري إسرائيلي على المخيم حلا، أي أنها تنتقم من المخيم، لأن “الهدوء” المطلوب ضروري لسحب السعودية وبلدان عربية وإسلامية أخرى إلى تطبيع بل تحالف رسمي مع إسرائيل، خشية أن تعزّز العلاقة السعودية مع الصين نفوذ بكين السياسي، فيما علاقتها مع إيران تدمّر حجة الحاجة إلى حماية إسرائيلية للخليج من تهديد طهران.

تعتمد حسابات واشنطن على تخاذل الأنظمة العربية وتواطئها، بما فيها السلطة الفلسطينية، ولكنها حساباتٌ قصيرة النظر، فحتى لو دخلت السعودية في تحالفٍ تطبيعيٍّ مع إسرائيل، وذلك ضربة كبيرة للقضية الفلسطينية، فلن تنال إسرائيل الهدوء، فأجيال مقاومة تنمو ولن تنقرض، بل تتفجر من الأرض الفلسطينية تباعاً.

لا تجوز الاستهانة بالألم، بل يلزم الاعتراف بأنّ فجيعةً أصابت أهل مخيم جنين، فلا تحقّ لنا متعة الشعور بالانتصار، من دون الانغماس والتحرّك. ولا توجد ذريعة لأصحاب مقولة “لا ينفع شيء”، فرفض التطبيع فعل مقاوم، وهو أقلّ ما نقدّمه لفلسطين، بل لحماية الأوطان العربية، فجميعها في خطر.

  • عن العربي الجديد

 

 

مشاركة